في حديث نبوي رواه سيدنا عبدالله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»، وإذا بدا ذلك غريباً لدى البعض، وقالوا كيف للنفس أن تعادي صاحبها وهي صاحبها؟ فإن جيوشاً من الدلائل والبراهين القاطعة تصطف لتؤكد صحة القول في واقع الحال، كيف لا والنفس هي التي تشتهي الخير والشر، وتعتدي وتأمر بالمنكر أحياناً وتدفع إلى دروب السوء وتتبع الهوى فتهوي بنا في مهاوي الردى كالعمياء من حيث تظن أنها تصيب خيرها ورضاها.
جلي أن الله عز وجل جعل ابتلاءات المرء كلها في مدى تطويع نفسه وترويضها على فعل الخير وترك المنكر، له ولغيره، وبقدر ما يسيطر الإنسان على جموح نفسه وهواها المتشعب في دهاليز الجشع والطمع وطلب الإشباع بلا حدود، بقدر ما يتهذب ويستقيم فينصلح أمره. وهكذا تبدو قوة الإنسان في قدرته على كبح هواه، ولقد قال المولى عز وجل عن النفس: «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» الشمس 9-10 وقال جل في علاه عن حال المفلحين بين يديه والخاسرين: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» النازعات:40-41.
وإذا كانت النفس تظلم نفسها باتباع الشهوة والعدول عن جادة الصواب والحق، فما بالك بتصرفها حيال الآخرين، أليسوا أجدر بأن تنال منهم؟ بلى.
ومن هنا عمد كثير من المصلحين على مر الزمان، وعديد الشعراء إلى دعوة الإنسان نحو الارتقاء بنفسه وتزكيتها من الصغائر لكي تكبر، باعتبار أن جماع الخير كله في إدارة النفس، لأنها التي تسخو وتبخل، وهي التي تتسامح وتثأر وتحب وتكره وتتواضع وتتجبر، متقلبة جموح. ألم يقل قائلهم: «لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها، ولكنّ أخلاق الرجال تضيق» وما أخلاقهم إلا جبلة أنفسهم وميولها شراً مستطيراً أو خيراً وفيراً، وها هو الإمام الشافعي يقدم روشتة صلاح الناس في أرض الله التي بأنفسهم تضيق بما رحبت أو تتسع بما وسعت صدورهم يزجي درراً من الحكم البليغة بهذا الصدد:
إذا رُمتَ أنْ تَحيا سَليماً مِن الأذى
وَدينُكَ مَوفورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لِسانَكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ
وعَيناكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً
فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ
وعاشِرْ بِمَعروفٍ وسامِحْ مَن اعتَدى
ودَافع ولكن بالتي هِيَ أحسَنُ
كل تلكم الشيم ومكارم الأخلاق التي أشار إليها الإمام إنما مناطها ومحلها النفس التي تنتجها، فإذا كرُمت وطهُرت استقامت لها الجوارح والحواس التي تناولتها الأبيات السابقات، وأما إذا انطلقت إلى مهاوي الهوى واتباع الشهوات، بلا عقال أو تعقّل، فسدت وأفسدت، وباتت عمياء لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً «كالكوز مجخياً» على نحو ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف صحيح.