تجلت عبقرية المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الوحدوية في رؤيته العميقة وإيمانه القوي بفكرة الوحدة، ويقينه بحتمية الاتحاد في عالم مضطرب، تسوقه المصالح، ويُؤكل فيه الصغير، وتتلاشى فيه الكيانات الضعيفة، كما كان المؤسس يدرك أن شعب الإمارات هو من يرنو إلى الوحدة، ويتطلع إلى بناء دولة قوية موحدة مستقلة ذات سيادة، يحدوها مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
ويتجلى ذلك في قوله، طيب الله ثراه، «إن الاتحاد ما قام إلا تجسيدا عمليا لرغبات وتطلعات شعب الإمارات الواحد في بناء مجتمع حر كريم يتمتع بالمنعة والعزة، وبناء مستقبل مشرق وضّاح ترفرف فوقه راية العدالة والحق، وليكون رائداً ونواة لوحدة عربية شاملة».
كان الشيخ زايد مقتنعاً بأن مصير إمارات «الساحل المتصالح» يتجلى في وحدتها، لذلك لم يتوان عن لعب الأدوار التي كان من شأنها إنجاح الوحدة وتعزيزها بين إمارات المنطقة، فقناعته بأهمية الاتحاد هي التي أنجحت الفكرة، حيث إن تلك القناعة جعلته يتبنى الفكرة ويأخذ على عاتقه مسؤولية تحقيقها على أرض الواقع، وهذا ما أكده في قوله: «إن مرحلة ما قبل الاتحاد ما هي إلا تاريخ مضى، علينا أن نأخذ منه الدروس والعبر لكي نثبت للتاريخ أن إيماننا وعزائمنا كانت أقوى من كل الصعوبات والشدائد التي فرضت علينا».
أمسك الشيخ زايد بزمام الفكرة وانطلق يدعو إليها في كل مكان ومحفل وتعددت زياراته ورسله إلى قادة إمارات الساحل ودول المنطقة لإقناعهم بالاتحاد، ولأنه كان شديد الإيمان بالفكرة كان يعبر عنها أمام إخوانه حكام الإمارات بكل صدق وإيمان، فصادفت دعوته استجابة سريعة من قبل الحكام خصوصاً من قبل أخيه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، الذي حمل معه الدعوة إلى الاتحاد وبدأ في وضع اللبنات الأولى لاتحاد الإمارات.
إيمان
وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهت الفكرة إلا أن الشيخ زايد والشيخ راشد لإيمانهما بالفكرة وجدا أن الوقوف في وجه فكرة الاتحاد لا تعني على الإطلاق نهاية الطريق بل هي حافز للسير في وضع الأسس التي يمكن أن تشجع الآخرين على الانضمام، فأخذا بزمام المبادرة مع أخيه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، ونجحا في زرع بذرة الاتحاد عندما شكلا الاتحاد الثنائي والذي أصبح النواة التي أتت بالآخرين لمناقشة فرص انضمامهم للاتحاد.
وفي إحدى مقولات الشيخ زايد عن الاتحاد التي تؤكد الصعوبات والتحديات التي وقفت في وجه فكرة الاتحاد في البداية قال، طيب الله ثراه، «إن الاتحاد أمانة غالية في أعناقنا جميعاً، هذه الأمانة التي كافح الآباء والأجداد في سبيلها وناضلنا نحن جميعاً قادة ومواطنين من أجلها يداً واحدة وقلباً واحداً، وصبرنا وجاهدنا وتحدينا بعون الله المصاعب التي واجهتنا، وظلت رؤيتنا للحقيقة واضحة جلية لم تحجبها حالكات الليالي». وبعد قيام الاتحاد صرح بالقول «الآن رغم كل الصعوبات، فقد أصبح الاتحاد حقيقة راسخة في قلب كل مواطن وحياته، وامتدت جذوره القوية وإنجازاته الكثيرة إلى كل زاوية وشبر من أرض الإمارات، فشجرة الاتحاد تزداد ثمارها وتمد جذورها وتفيض بعطائها وستبقى هذه الشجرة خالدة لكل الأجيال القادمة».
خطوة
اتّخذ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمهما الله، الخطوة الأولى نحو إنشاء الاتحاد وكان يقصد بهذا الاتحاد أن يكون نواة للوحدة العربية، وحماية الساحل المتوقع فيه ثروة النفط من المطامع، فعقدا، طيب الله ثراهما، اجتماعاً في الثامن عشر من فبراير 1968 في منطقة السميح، بين أبوظبي ودبي، وقد وافق الشيخ زايد والشيخ راشد في ذلك اللقاء التاريخي على دمج إمارتَيهما في اتحاد واحد، والمشاركة معاً في أداء الشؤون الخارجية والدفاع، والأمن والخدمات الاجتماعية، وتبنّي سياسة مشتركة لشؤون الهجرة، وقد تُركت باقي المسائل الإدارية إلى سلطة الحكومة المحلية لكل إمارة، وعُرفت تلك الاتفاقية المهمة بـ«اتفاقية الاتحاد»، ويمكن اعتبارها الخطوة الأولى نحو توحيد الساحل المتصالح كلّه، وزيادة في تعزيز الاتحاد، ولاهتمام الشيخ زايد والشيخ راشد بتقويته، قاما بدعوة حكام الإمارات الخمس المتصالحة الأخرى، إضافة إلى البحرين، وقطر، للمشاركة في مفاوضات تكوين الاتحاد.
وحدة
ويرى الخبراء أن مدرسة زايد الوحدوية كانت ممارسة وتطبيقاً، تتطلب التضحيات في سبيل تحقيق الهدف المرجو، لأن الشيخ زايد كان منصفاً عندما أراد للاتحاد أن يقوم، وعمل على تقديم التنازلات لصالح إنجاح الاتحاد، فلم يبخل، رحمه الله، على الاتحاد بشيء، بل كان مستعداً لتحمل كلفة الاتحاد، وكان واضحاً في جعل مصلحة الاتحاد فوق المصالح الأخرى ولعب دور الداعم لقيام الاتحاد، وسعى لتحقيق التوزيع المنصف للأدوار بين الإمارات الأعضاء.
وفي الفترة من 25 إلى 27 فبراير 1968، عقد حكام تلك الإمارات التسع مؤتمراً دستورياً في دبي، وبقيت تلك الاتفاقية المكوّنة من إحدى عشرة نقطة، والتي بدأت في دبي، مدة ثلاث سنوات قاعدة للجهود المكثفة لتشكيل الهيكل الدستوري والشرعي لاتحاد الإمارات العربية هذا، والذي يتكوّن من تلك الإمارات التسع الأعضاء فيه، وعُقدت في تلك الفترة اجتماعات عدّة على مستويات مختلفة من السلطة، وجرى الاتفاق على القضايا الرئيسة في اجتماعات المجلس الأعلى للحكام، كذلك أجرى نوّاب الحكام إضافة إلى لجان أخرى مختلفة، مناقشات رسمية تتعلّق بتعيين الإداريين من تلك الإمارات ومستشارين من الخارج، وخلال تلك الاجتماعات بدا أن كلاً من قطر والبحرين لا ترغبان في الدخول في هذا الاتحاد.
قرار
وفي اجتماع عقد في دبي في 18 يوليو 1971، قرر حكام ست إمارات من الإمارات المتصالحة وهي: أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة، تكوين الإمارات العربية المتحدة، وفي 2 ديسمبر 1971م أُعلن رسمياً تأسيس دولة مستقلة ذات سيادة، وبعد ذلك، أي في 10 فبراير 1972، انضمّت رأس الخيمة إلى الاتحاد، فأصبح الاتحاد متكاملاً باشتماله على الإمارات السبع.
وتم انتخاب حاكم أبوظبي، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، من قبل الحكام ليكون أول رئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة، وأعيد انتخابه بعد انتهاء فترة خمس سنوات، وكان حاكم دبي آنذاك الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، قد تمّ انتخابه ليكون نائباً للرئيس، وهو منصب استمرّ فيه حتى وفاته عام 1990م، وبعدها تمّ انتخاب ابنه الأكبر الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ليخلفه في ذلك المنصب. وفي اجتماع عُقد في 20 مايو 1996م، وافق المجلس الأعلى للاتحاد على نص معدل للدستور، جعل من دستور البلاد المؤقّت، الدستور الدائم لدولة الإمارات العربية المتحدة، وعُيّنت أبوظبي عاصمة الدولة.
وبدأت دولة الإمارات العربية المتحدة برنامجها السياسي كاتحاد مكوّن من سبع إمارات إقليمية مختلفة من حيث مساحتها ومواردها الطبيعية، وعدد سكانها، في حين تشترك جميعها بتاريخ وتراث واحد، وكان التقدّم المثير للدهشة الذي سجّلته دولة الإمارات، ممكناً نتيجة لتحقيق النجاح في إقامة الاتحاد، وتعاون قادته، وروح الانسجام والتعاون الذي كانوا يعملون به لتحقيق الأهداف المشتركة.
وما ساعد التجربة الوحدوية الإماراتية على النهوض والنمو السريع علاقة الشيخ زايد بشعبه والتي كانت علاقة الأب بأبنائه ليس فيها أي حواجز إلى جانب اعتماد الانفتاح والشفافية ومبدأ الشورى والذي عبر عنها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، بالقول «إننا خضنا التجربة الديمقراطية التي نعيشها في الواقع منذ مئات السنين في ظل مبدأ الشورى، نحن نتطلع إلى تحقيق المزيد من مراحل هذه التجربة والاستفادة من تجارب الأشقاء الذين مروا بنفس الظروف، وقامت دولة الإمارات العربية المتحدة على مبادئ العدالة والمساواة والتسامح ومراعاة حقوق الإنسان منذ تأسيسها وحرص القيادة الرشيدة على التزام نفس المبادئ والقيم والنهج».
اقرأ أيضاً:
ـــ مجلس التعاون كما أراده زايد.. رفاهية للشعوب وتنمية للأوطان ودرع للعرب