إن الوصول إلى رقيّ المجتمع وتنميته والنهوض به، وتحقيق ازدهاره وتقدمه، ما هو إلا انعكاس لتطور سياساته وتشريعاته، المتسمة بالكفاءة والفاعلية، المواكبة للتطور الذي تفرزه نواحي الحياة المختلفة، نتيجة المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، والمتميزة بقدرتها على ترجمة الرؤى الطموحة، وتحقيق مقتضيات الاستدامة، والمعززة لمبادئ الحوكمة الرشيدة، وسيادة القانون، والشفافية، وإرساء قواعد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة، والمحققة لسعادته ورفاهيته، وتمكينه من المنافسة.
إن ما يشهده العالم من تطور في قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وما يرافقه من متغيرات متسارعة، يتطلب مرونة تشريعية وحاجة ملحة إلى تطوير وتحديث التشريعات اللازمة لمواكبة هذه المتغيرات، وبالنظر لما تمثله المنظومة التشريعية من بيئة صلبة وداعمة لاستشراف وصنع المستقبل الذي تصبو إليه الدول على اختلاف أنظمتها، فقد كان لزاماً على الجهات الحكومية المركزية المعنية بالعملية التشريعية الاهتمام بالصناعة التشريعية، والتوسع في منهجيات هذه الصناعة لتشمل تشريعات المستقبل، التي تعطي الغطاء التنظيمي والقانوني لأي تطور قد تشهده قطاعات التكنولوجيا، والتحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من القطاعات المعنية بالتقنية والابتكار واستشراف المستقبل.
وفي هذا السياق قال طارق خميس أبو سليم المستشار القانوني في اللجنة العليا للتشريعات إن الصناعة التشريعية، باعتبارها إحدى دعائم الحوكمة الرشيدة، تُشكل في مفهومها مجموعة من المبادئ والركائز والأصول والمنهجيات التي تؤدي إلى تطوير منظومة العملية التشريعية والارتقاء بها، وفق معايير وقواعد محددة وواضحة تتم مراعاتها في جميع مراحل العملية التشريعية، بدءاً من مرحلة نشوء فكرة التشريع، وحتى مرحلة تنفيذه، مروراً بمرحلة إعداده ومناقشته وإصداره.
وأضاف: «من هنا يبرز مفهوم صناعة تشريعات المستقبل، باعتبارها منهجاً لاستشراف المستقبل يتم من خلاله توفير تشريعات متكاملة ومتينة ومرِنة، تراعي المتغيرات، وتواكب متطلبات التطور التكنولوجي والثورة الصناعية الرابعة، وتدعم التحوّل الرقمي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي فيها».
مبادرات نوعية
وأكد أن اللجنة العليا للتشريعات انفردت بتبني حزمة من المبادرات النوعية، التي تشكل منهجية واضحة وفعّالة في صناعة تشريعات المستقبل، ومنها مشروع (دبي 10x)، الذي يهدف إلى إيجاد نظام لصناعة التشريعات في إطار قانوني محدد للقطاع الخاص، تكون فيه التشريعات المُصاغة قادرة على تلبية الحاجة الملحة التي يفرضها تطور التكنولوجيا عالمياً، والاستجابة لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، التي أدت إلى ظهور ممارسات جديدة ومشاريع غير مسبوقة تستوجب وجود نظام تشريعي يستوعب هذه التطورات، ويدعم جهود تحقيق الريادة في مجال تطوير صناعة تشريعات المستقبل، على نحو يعزز من تنافسية الإمارة، باعتبارها إحدى أكثر المدن تطوراً وجذباً للاستثمار في العالم.
وأشار إلى تبني «اللجنة «مشروع (التشريعات التوجيهية والمفتوحة والمرنة)، باعتباره أول مشروع تفاعلي لصناعة تشريعات المستقبل بالتشارك مع القطاع الخاص وأصحاب المصالح، والذي يهدف إلى إيجاد نظام تشريعي قادر على مواكبة التطورات المحلية والمتغيرات العالمية المرافقة للتقدم التكنولوجي، الذي أثمر عن ممارسات جديدة ومبادرات مبتكرة ومشاريع غير مسبوقة تتطلب وضع أطر تنظيمية وتشريعية متوازنة تلبي احتياجات الأعمال التجارية والصناعات الناشئة في المستقبل، وتتماشى مع متطلبات التحول الرقمي، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي».
مختبر التشريعات
وأضاف: «كما هو شأن إمارة دبي في التميّز بشتى القطاعات الحيوية، باعتبارها مركزاً للابتكار والتطوير، فقد كانت كذلك سباقة باعتماد (مختبر التشريعات)، باعتباره مبادرة حكومية، ومنهجية يتم اتباعها في صناعة تشريعات المستقبل، حيث تهدف هذه المبادرة إلى تطوير الأطر التنظيمية والتشريعية لتوظيف التكنولوجيا والتقنيات الناشئة، على نحو يساهم في تطوير الأعمال ويقلل من المخاطر، ويوفر بيئة تشريعية مرنة ومتوازنة وواضحة، تُعنى بتقنيات المستقبل وتنفيذ المشاريع الابتكارية والتقنية، كالذكاء الاصطناعي والتنقل الذكي وغيرها من القضايا الإبداعية التي تساهم في تحقيق تطلعات الإمارة ورؤيتها المستقبلية في جعل دبي المدينة الأذكى عالمياً».
وتابع المتحدث: «فكرة المختبر التشريعي قائمة على طرح التشريعات ودراستها وتطويرها من خلال مختبر تشاركي مع القطاع الحكومي والخاص، بحيث يتم بناءً على نتائج اختبار التشريعات المطروحة، تحديد مسارها المستقبلي، وما إذا كانت هذه التشريعات تحتاج إلى تعديلات تطويرية إضافية، ومن ثم السير في إجراءات إصدارها، أو أن التشريع المطروح للدراسة في المختبر، يحتاج إلى إعادة نظر وتعديل بصورة جذرية».
صناديق الحماية التشريعية
وقال: «إن من بين المنهجيات التي تعكف اللجنة العليا للتشريعات على اتباعها في صناعة تشريعات المستقبل، منهجية (Sand Box)، أو ما يسمى بـِ (صناديق الحماية التنظيمية أو التشريعية)، باعتبارها بيئة تجريبية مرنة للتشريعات، تتم من خلال جمع البيانات المتعلقة بأي من الأفكار الإبداعية أو الابتكارية أو الرقمية أو التقنية، التي تُقدمها الشركات أو المؤسسات الناشئة، ليتم العمل على دراستها وتحليلها، وتحديد الأطر التنظيمية أو التشريعية اللازمة لتطبيقها، ثم تجريبها في فترة زمنية معينة».
وأضاف المتحدث: «شهدت دبي مسيرة حافلة بالنجاح في تعزيز منظومتها التشريعية وتحديث الأطر التنظيمية، وصولاً إلى تشريعات رشيقة ومرنة، تحاكي الواقع وتستشرف المستقبل، كما شهدت تشريعات الإمارة خلال السنوات الماضية تطوراً لافتاً، يحافظ على الهوية الوطنية للإمارة، ويواكب عجلة التطور الاقتصادي والتكنولوجي والإبداعي الذي يشهده عالمنا المعاصر، وتظهر فيه مفاهيم مبتكرة ترسم ملامح المستقبل».
وقال: «على سبيل المثال، شهدت الإمارة خلال السنتين الماضيتين، إصدار العديد من التشريعات التي تتسم بالرشاقة والمرونة، واستشراف المستقبل، من بينها، القانون رقم (4) لسنة 2020 بشأن تنظيم الطائرات من دون طيار في دبي، الذي يهدف إلى تنظيم عمليات تشغيل الطائرات من دون طيار في الإمارة، وفقاً لأفضل المعايير والممارسات العالمية، وتنظيم مزاولة الأنشطة المرتبطة باستخدام الطائرات من دون طيار، وخلق بيئة محفزة على الاستثمار في هذا القطاع، والمساهمة في جعل الإمارة مركزاً لصناعة الطائرات من دون طيار، والنقل الذكي، والابتكار في مجال النقل الجوي».
وأضاف: «هذا القانون، يُشكل انفراداً وتطوراً نوعياً في تنظيم كل ما يتعلق بالطائرات من دون طيار على المستوى العالمي، وتحديد المسؤوليات والاختصاصات، سواءً من حيث تحديد اختصاصات الجهات الحكومية المحلية المعنية بقطاع الطيران، أم في مجالات استخدام تلك الطائرات في الأنشطة الحكومية، أم التجارية أم العلمية والبحثية أم الأنشطة الخاصة بممارسة الهوايات والرياضات الجوية، كما حدد هذا القانون، أنواع الطائرات من دون طيار وفئاتها، وكيفية تداولها، وإجراءات تسجيلها، وتصميمها وتصنيعها وبيعها واستيرادها وامتلاكها، وأنظمة التحكم بها، وإنشاء وتشغيل المطارات الخاصة بها، والالتزامات المتعلقة بتشغيلها».
خطوة استباقية
وأشار المستشار القانوني إلى أن القانون حدد في خطوة استباقية واستشرافية، مجالات استخدام الطائرات من دون طيار من قبل الجهات الحكومية، والتي من بينها: النقل الجوي للركاب والبضائع، وجمع البيانات والإحصائيات، وتقديم خدمات الإسعاف، وإطفاء الحرائق، ومراقبة الحركة المرورية، وتأمين الفعاليات والمؤتمرات والمسابقات والمباريات الرياضية التي تحتاج إلى تأمين جوي، ومراقبة التجاوزات البيئية والصحية والتخطيطية والبنائية، ومراقبة البنية التحتية، ومراقبة الموانئ والشواطئ والمنافذ البحرية، والمسوحات الجوية، وعمليات البحث والإنقاذ، وضبط الأفعال المخالفة لأحكام التشريعات السارية.
وقال طارق أبو سليم: «من بين التشريعات النوعية التي تمثل نموذجاً عالمياً في استشراف المستقبل، المرسوم رقم (24) لسنة 2021 بشأن تنظيم استخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بأعمال البناء في دبي، الذي يعزز من مكانة الإمارة في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد، على مستوى المنطقة والعالم، ويساهم في دفع عجلة الاقتصاد في الإمارة، ويعزز تنافسيتها العالمية، والمحافظة على البيئة، من خلال تقليل نسبة المخلفات الناتجة عن أعمال البناء، بالإضافة إلى إيجاد بيئة محفزة لتشجيع أعمال البناء باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، واستقطاب الشركات الرائدة في هذا المجال من خلال خفض التكلفة، وتقليل المدة المُستغرقة في تنفيذ أعمال البناء».
كما يهدف هذا التشريع النوعي إلى تنظيم استخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بأعمال البناء في جميع أنحاء الإمارة، ورفع نسبة المباني التي يتم تنفيذها باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في دبي بصورة تدريجية، وتحقيق نسبة لا تقل عن (25%) من إجمالي المباني التي تستخدم هذا النوع من التقنيات، بحلول عام 2030.
واستطرد المستشار القانوني «من الأمثلة التشريعية كذلك، قرار المجلس التنفيذي رقم (3) لسنة 2019 بشأن تنظيم التجربة التشغيلية للمركبة ذاتية القيادة في إمارة دبي، الذي يتناول المسؤوليات المترتبة على الجهات الحكومية المعنية في تنظيم التجارب التشغيلية للمركبات ذاتية القيادية والمنشآت التي يتم التعاقد معها من قبل هيئة الطرق والمواصلات في دبي لإجراء التجربة التشغيلية لهذا النوع من المركبات، التي تعمل بنظام إلكتروني ذكي مصمم كوسيلة للتواصل بين المركبة وعناصر الطريق، يحقق مستويات مختلفة من التحكم بالمركبة، قد تصل إلى قيادتها من دون أي تدخل بشري، حيث جاء هذا التشريع كخطوة استباقية للقيام بتشغيل المركبات ذاتية القيادة، والسماح لها بالسير على الطريق، من خلال تنظيم تجارب تشغيلية لهذا النوع من المركبات، وإخضاعها لمجموعة من الإجراءات والعمليات الفنية للتحقق من صلاحيتها للسير على الطريق بالاعتماد على أنظمة الملاحة المتوفرة فيها، ومن ثم مواءمتها مع الأنظمة الذكية المعتمدة لدى الهيئة، على نحو يضمن أمن وسلامة الركاب ومستخدمي الطريق».
العمل عن بُعد
كما قال: «من بين الأمثلة التشريعية أيضاً، قرار المجلس التنفيذي رقم (36) لسنة 2020 بشأن نظام العمل عن بُعد لموظفي حكومة دبي، الذي يشكل مرونة في توفير أنظمة عمل تتماشى مع الطبيعة التشغيلية للجهات الحكومية، على نحو يعزز الرشاقة المؤسسية، ويعزز من إنتاجية تلك الجهات وموظفيها، ويوائم بين ساعات عمل الموظف واحتياجات العمل ومتطلبات حياته الخاصة، بما يضمن استمرارية الأعمال حتى في الحالات الطارئة، فهذا التشريع بما فيه من أدوات وممكنات، يُعد نموذجاً يحتذى به في صناعة تشريعات المستقبل، لما يمثله من استشراف لمستقبل الواقع الوظيفي، واستفادة كبرى من وسائل التكنولوجيا، وأدوات البيئة الرقمية».
إضافة نوعية
تسير إمارة دبي بخطى ثابتة على درب التميز في تطوير العملية التشريعية، حيث تعكف اللجنة العليا للتشريعات حالياً على مراجعة وإعداد العديد من مشاريع التشريعات، التي ستشكل إضافة نوعية في مفهوم صناعة تشريعات المستقبل، من بينها، «تقديم الخدمات الرقمية»، و«الهوية الرقمية»، و«تنظيم المتاجر الإلكترونية»، و«كاتب العدل الإلكتروني»، و«النقل بالمركبات الجوية».
لقد استطاعت اللجنة العليا للتشريعات في إمارة دبي، منذ تأسيسها، تحقيق إنجازات نوعية على صعيد الارتقاء بالمنظومة التشريعية والقانونية لإمارة دبي، وأن تكون شريكاً حقيقياً وفاعلاً في إيجاد بنية تشريعية فعّالة تواكب التغيرات الاقتصادية.
الرشاقة ركيزة للعملية التشريعية
قال المستشار القانوني طارق أبو سليم: «تعد الرشاقة والمرونة التشريعية من بين أهم ركائز العملية التشريعية، والضامن الرئيس لنجاح عملية صناعة تشريعات المستقبل، فالمرونة التشريعية من شأنها أن تجعل القواعد القانونية أكثر ملاءمة للاحتياجات المجتمعية، وأكثر قابلية للتطبيق على المراكز القانونية التي صدرت من أجل تنظيمها، على نحو يواكب المتغيرات والتحولات التي يشهدها العالم في قطاع التكنولوجيا، ويساهم بشكل أساس في تحقيق الإبداع والابتكار، ودعم التقدم والتطور في كل مجالات الحياة».
وبالنظر إلى المنهجيات المتبعة في صناعة التشريعات، نجد أنها تختلف باختلاف الأدوات والأساليب المنظمة لمراحل العملية التشريعية في كل دولة، في حين تختلف منهجية صناعة تشريعات المستقبل باختلاف الأهداف المرجو تحقيقها، والأفكار المزمع الوصول إليها وتنفيذها مستقبلاً، من هنا، وإدراكاً منها لأهمية أن يكون التشريع مواكباً للتطور، مستشرفاً للمستقبل، محافظاً على المكتسبات والمنجزات، اتبعت اللجنة العليا للتشريعات في إمارة دبي، العديد من المنهجيات التي تعزز صناعة التشريعات بشكل عام، وصناعة تشريعات المستقبل بشكل خاص، ومن بين هذه المنهجيات، منهجية تقييم الأثر التشريعي، باعتبارها المنهجية الأكثر استخداماً وشيوعاً لصناعة التشريعات، والتي تقوم على دراسة وتحليل مدى الحاجة إلى القيام بتدخل تشريعي، لحل ومعالجة مشكلة قائمة، أو تبني فكرة مستقبلية، سواءً أكان ذلك بإعداد تشريع جديد أم تعديل تشريع قائم، ومن ثم تقييم كفاءة هذا التدخل وفاعليته، وقياس مدى قدرته على حل المشكلة، أو استشراف الحاضر والمستقبل، من خلال التأكد من تحقيقه للأهداف المرجوة منه، بالتشاور مع القطاع الخاص وأصحاب المصالح على اختلاف فئاتهم، فمنهجية تقييم الأثر التشريعي تشتمل على إجراءات علمية وعملية لإعداد ودراسة التشريع، يتوجب على صانع التشريع القيام بتنفيذها والإشراف عليها بأسلوب فني متسلسل.