قبل نحو 59 عاماً كانت دبي على موعد مع المكتبة العامة على ضفة خور دبي في منطقة الراس، بتوجيهات من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، لتكون بذلك أول مكتبة عامة في دبي، حينها شكلت تلك المكتبة منارة معرفية مهمة، وقد سارت في أروقتها ثلة من فرسان الثقافة، ممن تظللوا بنور المعرفة.
حيث مثّل العلم والثقافة أحد المحاور الرئيسية في استراتيجية دبي. وقد ترسخ هذا النهج على مدى السنوات الماضية، بتوجيهات ومتابعة مباشرة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي أعاد للحضارة العربية بريقها، عبر مبادرات سموه، التي تضيء طريق العلم والثقافة والإبداع للأجيال.
وهو ما يتجسد اليوم مع افتتاح مكتبة محمد بن راشد، التي شرعت أبوابها على المعرفة، وقد احتضنت بين جدرانها أكثر من مليون كتاب، لتشكل «مكتبة حية» ومنارة معرفية جديدة، تستأنف درب الحضارة العربية الذي أعاد له صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وهجه وتألقه، من خلال هذه المكتبة التي تمثل صرحاً معرفياً ساحراً بتفاصيله المعمارية، وكنوزه المعرفية التي تمثل هدية «فارس العرب» إلى الأجيال المقبلة.
مليون كتاب
ساعات قلائل لا تكفي لاكتشاف ما تمتلكه مكتبة محمد بن راشد من كنوز وكتب، فالجولة التي شاركت فيها «البيان»، أمس، بين جنبات المكتبة بدت مذهلة، وتفيض بالسحر والجمال، لا سيما عندما تدرك بأنك تقف بمواجهة أكثر من مليون كتاب ورقي ورقمي، بعضها له لسان عربي وأخرى تتلو كلماتها بألسنة أجنبية، ترافقها نحو 6.5 ملايين رسالة علمية، ونحو 73 ألف مقطوعة موسيقية، و57 ألف فيديو، وحوالي 13 ألف مقالة، وأكثر من 5 آلاف دورية ورقية وإلكترونية تاريخية، تمثل أرشيفاً لأكثر من 300 سنة، ونحو 35 ألف صحيفة ورقية وإلكترونية من مختلف أنحاء العالم، وما يقارب 500 من المخطوطات والمقتنيات النادرة.
روبوتات
المكتبة التي ترتفع على طول 7 طبقات من كنوز المعرفة، لم تبتعد عن سكة الرقمنة، فإدارتها لم تغض الطرف عن هذا الجانب، والذي يتجلى بوضوح في الطوابق الأرضية، حيث يقع المخزن الآلي، والذي تلعب فيه الروبوتات دور البطولة، تتحرك وفق أوامر محددة، لتتولى إحضار الكتاب، بناءً على الرقم التسلسلي التي تحملها، في ذلك المكان تجتمع الكتب في صناديق خاصة.
حيث يستوعب المخزن مليون كتاب، وبحسب الدكتور محمد سالم المزروعي، المدير التنفيذي لمكتبة محمد بن راشد، فإن هذا المخزن يعد الأول من نوعه على مستوى الخليج والمنطقة العربية.
حيث يتولى فيه الروبوت عملية إحضار الكتب المطلوبة بناءً على الرقم التسلسلي، كما يتولى أيضاً عملية تخزينها، فيما يتم نقل الكتب من المخزن إلى الخارج عبر آلية محددة، لا تتجاوز في زمنها دقائق معدودات، مبيناً بأنه في حال كان الطلب عالياً على مجموعة معينة من الكتب، يتم تخزينها في مكان قريب جداً من نقطة التسليم، تفادياً لأي عملية تأخير من قبل الروبوت.
وبحسب د. المزروعي فإن إدارة المكتبة لديها خطة متكاملة، لتشغيل الروبوتات مستقبلاً داخل أروقة المكان، بحيث تتولى بنفسها عملية إحضار وتخزين الكتب وغيرها. على الطرف الآخر وتحديداً في غرفة ترقيم الكتب، يبدو المشهد مغايراً، فهناك يتم تصوير الكتب النادرة ورقمنتها بأحدث الطرق.
وذلك لضمان الحصول على نسخ عالية الجودة، وفي هذا السياق أكد المزروعي بأن المكتبة تعمل حالياً على أرشفة ورقمنة الكتب النادرة، من خلال تصويرها بأحدث الصور، تمهيداً لوضعها على الموقع الإلكتروني للمكتبة، لتكون متاحة أمام الجميع.
جمال الثقافات
بمجرد أن تطأ عتبات الطابق السابع، حتى تبدأ باكتشاف سحر المعرفة، الذي يطل من بين دفات المخطوطات القديمة وأدوات أخرى لها علاقة بالطباعة والكتابة، وقد مر عليها عقود طوال، وقد اجتمعت كلها تحت ظلال معرض «ذخائر المكتبة» الدائم. الذي يتضمن أكثر من 400 مخطوطة قديمة، بعضها وصلت إلى المكتبة عن طريق الإهداءات، بينما جلها جاءت عن طريق شرائها عبر المزادات.
صناديق وواجهات زجاجية كثيرة تلف المعرض، خلفها تبخترت الوثائق والمخطوطات بجمال زخرفتها وبخطوطها القديمة، بعض هذه المخطوطات تعكس ثراء التراث والحضارة الإسلامية والعربية، وأخرى تبرز جمال الثقافات الأخرى وروائعها، كما في الطبعة الأولى من مقالات ميشيل دي مونتين التي تعود في الزمن إلى عام 1580.
حيث يبلغ ثمن هذه المخطوطة نحو 1.7 مليون درهم. وبالقرب منها فتحت مخطوطة «خيول إسطبلات الملك» لفيكتور آدم دفتيها، وتحظى هذه المخطوطة التي تعود إلى 1843، بأهمية بالغة، حيث كانت مملوكة لسائس ذلك الإسطبل، وفق د. المزروعي فإن هذه النسخة الوحيدة في العالم، وقد تعذر العثور على أي نسخ أخرى منها. في ذات المعرض، تتوزع أكثر من 3000 خريطة قديمة.
كما يضم أيضاً قسماً خاصاً لكتب الديانات، ويعرض مجموعة نادرة منها، لا تقدر بثمن. وعلى الطرف الآخر، أفردت إدارة المكتبة قسماً خاصاً للدوريات القديمة وأوائل الصحف العربية سواء تلك التي صدرت داخل المنطقة أو في بلاد المهجر، بينما احتلت إحدى نسخ «أخبار دبي» التي يشهد غلافها على زيارة الملكة اليزابيث الثانية للإمارات، حيزاً بارزاً لها في هذا القسم.
اقرأ
«تعتبر مكتبة محمد بن راشد رافداً مهماً جداً في دعم الكتاب العربي بشكل عام على المستوى المحلي والعربي والعالمي»، بهذا التعبير آثر الدكتور محمد سالم المزروعي،، وصف مساهمة مكتبة محمد بن راشد في إثراء المشهد الثقافي العربي والمحلي.
وقال لـ«البيان»: «بلا شك أن كلمة «اقرأ» المكتوبة في مدخل المكتبة، إنما هي خير تعبير عن مدى الاهتمام بالثقافة واللغة العربية، وهو ما تمت ترجمته من خلال كمية الكتب والدوريات العربية التي تحتفظ بها المكتبة، بالإضافة إلى نوعية الأنشطة التي سيتم التركيز عليها مستقبلاً».
مؤكداً على أن «هذا الصرح المعرفي لا يركز فقط على الإمارات، وإنما يدعم المشروع المعرفي الذي يقوده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على المستوى العربي»، مبيناً بأن مكتبة محمد بن راشد تعد واحدة من جملة المبادرات التي تصب في هذا الاتجاه.
أجندة مزدحمة
في المقابل، لا يبدو أن أبواب مكتبة محمد بن راشد، ستكون مشرعة أمام القراء وعشاق الكتب فقط، وإنما تتسع أيضاً لأولئك الذين دأبوا على المشاركة في الأنشطة والفعاليات الثقافية.
حيث أجندة المكتبة مزدحمة بهذا الجانب، في وقت ستكون فيه مهداً لفعاليات تحدي القراءة العربي، الذي يندرج تحت مظلة مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، ويتوقع أن تحتضن فعاليات دورة التحدي السادسة، وبحسب د. المزروعي في رده على أسئلة «البيان»، فإن المكتبة ستكون مساحة مفتوحة لكافة الأنشطة الثقافية في دبي.
وستفتح أبوابها أيضاً لفعاليات مهرجان طيران الإمارات للآداب، وتحدي القراءة العربي، بوصفهما أنشطة ثقافية مرموقة، وبين أن المكتبة لديها خطة إيجابية لاستقطاب عشاق القراءة والكتاب والباحثين خلال الفترة المقبلة، من خلال مجموعة الأنشطة وورش العمل التي تتعلق بالموسيقى والشعر والأدب والفنون وغيرها، قائلاً:
سيكون لدينا شهرياً حدث خاص بعنوان «حديث الشهر» نستضيف خلاله أحد المفكرين أو الأدباء أو الشخصيات المرموقة، للحديث عن تجربته وإنتاجاته الفكرية. وأكد بأن المكتبة ستكون خلال الفترة المقبلة نقطة جذب مهمة في دبي، وذلك لما تحتضنه من كنوز معرفية وأنشطة ثقافية وفنية مختلفة. ونوه د. المزروعي إلى أن الطاقة الاستيعابية للمكتبة تصل إلى 1000 زائر، بالإضافة إلى المساحات التي يوفرها المسرح والقاعات المختلفة التي تضمها المكتبة.
9 مكتبات
ثرية هي مكتبة محمد بن راشد، التي تضم بين جنباتها 9 مكتبات متخصصة، لكل واحدة منها عناوينها وتفاصيلها الخاصة، على رأسها تأتي مكتبة الإمارات التي جمعت تحت سقفها أكثر من 15 ألف كتاب، وكلها تضيء على جوانب متعددة من الثقافة الإماراتية ومكوناتها، في هذه المكتبة، وبحسب د. المزروعي، فقد تم في هذه المكتبة جمع كافة الإصدارات والوثائق والمؤلفات الورقية والرقمية والسمعية والبصرية التي تتعلق بالإمارات، سواء تلك التي صدرت داخل الدولة أو خارجها.
وعلى ذات النسق سارت مكتبة الفنون والإعلام، التي تضم بين جنباتها أكثر من 15 ألف عمل مطبوع ورقمي، تشمل وسائط متعددة في الفن والهندسة المعمارية والتصميم والأزياء والموسيقى والفنون المسرحية والأدائية والكلمة المكتوبة، كما تتضمن أيضاً قسماً خاصاً بالأفلام الوثائقية. في حين يبدو قسم الدوريات في المكتبة واسع المدى.
حيث يضم بين جنباته آلاف الدوريات التي صدرت ما بعد عام 1950، وتشمل الدوريات التي صدرت ولا تزال داخل الإمارات بكافة اللغات بدءاً من العربية وليس انتهاء بالصينية، ووفقاً للدكتور المزروعي.
فإن لدى المكتبة اشتراكات في 180 دورية ناطقة بالإنجليزية ولغات أخرى، و400 دورية ناطقة بالعربية. جولتك في أروقة المكتبة، لن تمر من دون الولوج إلى مكتبة الأطفال التي تم تصميمها بطريقة تشبه عوالم الأطفال، لتبدو بيئة جاذبة لهم، حيث تتوزع الكتب فيها بين الألعاب التي وضعت في المكان، الذي يتواجد فيه روبوت خاص، تم تحميله بالكثير من المعلومات التي يمكن للأطفال الاستفادة منها.
حمد الحمادي: مشروع وطني لاستئناف الحضارة
تتجاوز مكتبة محمد بن راشد في مفهومها فكرة المكتبة العامة، لتبدو من وجهة نظر الكاتب الدكتور حمد الحمادي، بأنها مشروع وطني لاستئناف الحضارة، حيث قال لـ«البيان»:
افتتاح مكتبة محمد بن راشد لا يمثل حدثاً ثقافياً عابراً، وإنما محطة أساسية في تدعيم الرؤية التي طرحها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد قبل سنوات في القمة العالمية للحكومات حين تبنى مفهوم استئناف الحضارة العربية ووضع العلم والنهضة الثقافية في طليعة المستهدفات الوطنية لدولة الإمارات.
ويعتبر بأن مكتبة محمد بن راشد ليست «مكتبة تقليدية» وإنما مشروع وطني فائق يضع الثقافة في قلب صناعة الحضارة.
ويضيف: «هي صرح ثقافي متعدد الجوانب، هي ليست مكاناً للقراءة فقط، بل مكاناً للمعرفة، استسقاءً وصناعةً، فالدور الثقافي الذي تلعبه سيسهم بلا شك في تحفيز العلماء والباحثين والمبدعين والمثقفين على رفد الثقافة العربية بدفعة كبيرة من العلوم والمكونات الثقافية التي افتقدها العالم العربي، والتي بلا شك ستشكل مكوناً أساسياً في مشروع استئناف الحضارة».
د. الحمادي أشار في حديثه إلى أن هذه المكتبة «تشكل خطوة جديدة ضمن استراتيجية الإمارات للاستعداد للمستقبل، كون العلوم والثقافة يشكلان مسارات أساسية في هذا الاتجاه بما يسهم في تسريع وتيرة التوجه المستقبلي للدولة». وقال: «مكتبة محمد بن راشد تمثل نقلة نوعية ومهمة في المجال الثقافي ستكون لها قيمة تتجاوز الجانب الثقافي وتمتد إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والإبداعية مما يضيف الكثير للمنطقة والعالم العربي».