خلال أربع سنوات، بين عامي 1347 و1352م، خسرت القارتان الأوروبية والآسيوية ما بين ربع إلى ثلث سكانهما جراء وباء عرف في التاريخ باسم «الطاعون الأسود». لم يتم حل لغز هذا الطاعون طيلة قرون، لكن اليوم، أسدل الستار على هذا الجدل. فقد ساعدت عينات من الحمض النووي أخذت من ضحايا الطاعون الدبلي الذين دفنوا في مقابر على طريق الحرير القديم بآسيا الوسطى في حل لغز يعود لمئات السنين، إذ أسهمت في تحديد مكان نشأته بمنطقة في شمال قرغيزستان. وأودى الطاعون الدبلي الذي يعرف أيضاً بالموت الأسود بحياة عشرات الملايين من الناس في منتصف القرن الرابع عشر.



وقال باحثون اليوم الأربعاء إنهم استخرجوا بقايا من الحمض النووي القديم من أسنان ثلاث نساء كن قد دفن في منطقة تتبع الطائفة المسيحية النسطورية إبان العصور الوسطى في وادي تشو بالقرب من بحيرة إيسيك كول في سفوح جبال تيان شان بعد أن قضى عليهن الطاعون في الفترة بين 1338 و1339. وأول الوفيات الموثقة في أماكن أخرى بسبب الوباء كانت في عام 1346.



وأظهرت إعادة بناء الخريطة الجينية لمسبب المرض أن هذه السلالة لم تؤدِ فقط إلى ظهور النوع الذي تسبب في طاعون «الموت الأسود» الذي عصف بأوروبا وآسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولكن أيضاً في معظم سلالات الطاعون الموجودة اليوم.



قال المؤرخ فيليب سلافين من جامعة ستيرلنج في اسكتلندا والمعد المشارك للدراسة التي نشرتها مجلة نيتشر «اكتشافنا أن الطاعون الأسود نشأ في آسيا الوسطى في ثلاثينيات القرن الرابع عشر يسدل الستار على جدل استمر لقرون من الزمان».



كان طريق الحرير طريقاً برياً للقوافل التي تحمل كميات كبيرة من البضائع ذهاباً وإياباً من الصين وإليها وتمر عبر مدن مزدهرة في آسيا الوسطى إلى مناطق من بينها العاصمة البيزنطية القسطنطينية وبلاد إيران.



تقديرات الضحايا

لا تملك كافة الدول القائمة خلال انتشار الطاعون سجلات دقيقة حول أعداد الضحايا، إلا أن هناك أرقاماً تكشف الكارثة البشرية التي تسبب بها الوباء، وكانت مجاعة واسعة النطاق قد سبقت كل ذلك، الأمر الذي أدى إلى ضعف أجسام السكان وقلة المناعة وبالتالي سرعة انتشار الوباء. في الصين، على سبيل المثال، أدى غزو المغول في القرن الثالث عشر إلى تعطيل قطاعي الزراعة والتجارة، وإلى مجاعة واسعة النطاق. ومع حلول الطاعون الأسود انخفض عدد السكان من نحو 120 إلى 60 مليون نسمة.



أشارت اتجاهات البحوث الأخيرة إلى أن 45% إلى 50% من سكان أوروبا ماتوا خلال أربع سنوات من الطاعون الأسود. كان أكبر عدد من الضحايا في أوروبا وحوض البحر المتوسط حيث مات 75% إلى 80% من عدد السكان. أما في الشرق الأوسط فإن الموت الأسود قتل نحو 40% من سكان مصر.



وأدى انتشار الوباء إلى تفاقم موجة من العنصرية والكراهية، حيث إن الطب لم يكن متقدماً لإيجاد تفسيرات تنافس الاعتقادات الغيبية للسكان حول منشأ المرض، وتم توجيه الغضب نحو اليهود الذين تعرضوا لحملات قتل جماعية في أنحاء أوروبا.



الدروس المستفادة

في أبريل 2020 نشرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) مقالاً حول الطاعون الأسود بعنوان: «مرض الطاعون «الموت الأسود»: ما هي الدروس التي يمكن الاستفادة منها عن انتشار الأمراض على طول طرق الحرير؟».



وذكر المقال أن انتقال الموت الأسود، والضرر الذي أحدثه للمجتمعات المختلفة في آسيا وأوروبا، هما بلا شك أمثلة على كارثة كبرى ساعدت الأنشطة التجارية وحركة البشر على تفاقمها. ومع ذلك، يكشف تقييم شامل لنتائج التبادلات على طول طرق الحرير أنه على الرغم من بعض الآثار السلبية، فقد جلبت هذه التفاعلات فوائد كبيرة وأثرت على حياة وثقافة الإنسان. في الواقع، كانت العلوم الطبية واحدة من المستفيدين بشكل مباشر من هذه التبادلات بين تلك الشعوب والحضارات. قدم العلماء مساهمات كبرى وقيمة في مجالات الطب والصيدلة والعلوم البيطرية بفضل تداول المعرفة والأفكار. وقامت حركة الناس والمعرفة عبر طرق الحرير على تسهيل الحصول على الترجمة الواسعة لتلك الخبرات والمعرفة القادمة من أجزاء أخرى من العالم إلى اللغة العربية، مما جعل مجموعة واسعة من المعارف والبحوث الدراسية في متناول العلماء والمفكرين في يومنا هذا.