في الوقت الذي تدخل فيه دولة الإمارات «عام الخير»، يواجه العالم موجة تكاد تكون غير مسبوقة من المآسي، بدءاً من استمرار الحروب الأهلية المريعة في كل من سوريا والعراق، مروراً بتهجير الآلاف من مسلمي الروهينغيا من بلادهم في ميانمار، وصولاً إلى زيادة وفيات الأطفال اليومية بسبب تفاقم أزمة المجاعة في جنوب السودان. وعلى المستوى العالمي، فرّ أكثر من 65 مليون شخص هرباً من الاضطهاد والعنف في مناطق شتى من العالم وازداد الطلب على المساعدات الإغاثية ازدياداً شديداً.
وفي ضوء ذلك، أعرب عدد من قادة العالم في القمة العالمية للحكومات التي انعقدت في دبي الشهر الماضي عن تزايد قلقهم من هذا السيل الجارف من الكوارث الناتجة عن فعل الإنسان وأثرها السلبي على قطاع المساعدات الإغاثية.
نحن في دولة الإمارات، وفي إمارة دبي، نؤمن بالأفعال لا بالأقوال. فلا يكفي الحديث عن المآسي التي يعانيها إخوة وأخوات لنا يعيشون تحت الحصار أو تحت وطأة الفقر المدقع. لا لأن الكلام لا قيمة له، ولكن لأنه لا يمكن إنقاذ حياة أي عائلة بمجرد كلمات تعاطف طيبة من جيرانها.
وهذا ما دفع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، إلى تأسيس المدينة العالمية للخدمات الإنسانية في دبي في العام 2003، بهدف إقامة مجمع من وكالات ومؤسسات الإغاثة المتخصصة والمتفرغة لتقديم المساعدات للأسر المحتاجة بأسرع الطرق وأكثرها نجاحاً. وتعتبر المدينة العالمية للخدمات الإنسانية منطقة حرة مستقلة لا تسعى إلى الربح، تستفيد من الموقع الاستراتيجي لدبي وقوتها التي لا تضاهى في المجال اللوجستي.
وبفضل موقعها القريب من مطار آل مكتوم، وميناء جبل علي، تستطيع المدينة نقل شحنات المساعدات على وجه السرعة جواً أو بحراً، كي تصل إلى ثلثي سكان العالم خلال مدة لا تتجاوز 8 ساعات.
وقد تم تسيير أكثر من 7500 شحنة مساعدات من قبل مؤسسات المدينة خلال الفترة من 2011 إلى2015 بقيمة تبلغ 1.936 مليار درهم، أي ما يعادل 527.1 مليون دولار.
واليوم بلغ عدد العاملين في المدينة 360 موظفاً ينتمون لمختلف دول العالم، ووصلت مساحتها إلى 120.000 متر مربع مجهزة بالعديد من المرافق، ما يجعلها أكبر مستودع في شبكة مستودعات الأمم المتحدة للاستجابة للحالات الإنسانية، إلا أن هذه المساحة لم تعد كافية نظراً لتنامي الطلب على المساعدات الإغاثية، لذلك استجاب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الشهر الماضي لمناشدات وكالات الإغاثة وأعلن عن خططه لمضاعفة حجم المدينة ثلاثة أضعاف.
تضم المدينة في عضويتها تسع وكالات تابعة للأمم المتحدة وأكثر من 40 منظمة ومؤسسة غير حكومية، منها منظمة الصليب الحمر، والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر والمنظمة الدولية للرؤية العالمية. وتتوفر لدى المدينة أصناف كثيرة ومتنوعة من السلع والمساعدات، كمستلزمات الطوارئ الطبية من منظمة الصحة العالمية لمواجهة الأوبئة، ومخزون من الأغذية من برنامج الغذاء العالمي لمن يعانون من سوء التغذية الحاد، وعشرات الآلاف من البطانيات والخيام وأجهزة تنقية المياه وغيرها من التجهيزات التي توفرها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لتجهيز مخيمات اللاجئين.
ولا يقتصر دور المدينة العالمية للخدمات الإنسانية على الخدمات اللوجستية والشحن، بل تسهم أيضاً في تنسيق عمليات الاستجابة من قبل وكالات الإغاثة في الأزمات، وتقديم أحدث المرافق والمنشآت للتدريب والمؤتمرات. كما استضافت المدينة إطلاق الأمم المتحدة لمناشداتها الخاصة بالمساعدات الإغاثية، وأصبحت مركزاً رائداً في تدريبات الاستجابة للطوارئ لموظفي الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، لاسيما فيما يتعلق بالتصدي لأحداث العنف والكوارث الطبيعية، فضلاً عن استضافتها لاجتماعات إقليمية وعالمية لوكالات الأمم المتحدة وأبرز المنظمات غير الحكومية.
وفي العام الماضي، أطلقت المدينة استراتيجيتها 2015-2021 وأصبحت عضواً في مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، أكبر مؤسسة تنموية في الشرق الأوسط. كما تستفيد المدينة من توجيهات السياسات التي يوفرها اجتماع المجلس الاستشاري الإنساني العالمي (H10) برئاسة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والذي يضم رؤساء وكالات تابعة للأمم المتحدة ونخبة من أبرز خبراء المساعدات الإنسانية في العالم.
ويتألف مجلس إدارة المدينة من أعضاء من حكومة دبي والحكومة الاتحادية ذوي مسؤوليات مختلفة تتراوح ما بين العسكرية والجمركية والأمن الوطني، ما كان له كبير الأثر في مساعدة المدينة على الاستجابة بسرعة فائقة في أعمال الشحن والإخلاء، كما تعمل المدينة بتنسيق وثيق مع وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي.
واليوم، يشهد الشرق الأوسط أزمات تفوق طاقته الاستيعابية، والحقيقة أن أكبر عملية شاملة أطلقتها المدينة العالمية للخدمات الإنسانية كانت عبارة عن عملية نقل جوي عام 2014 برعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لتوفير الغذاء لمئات الآلاف من أهل غزة الذين حوصروا في الملاجئ خلال القصف الإسرائيلي ذلك العام. ففي أول 36 ساعة من هذه الكارثة، تم إرسال مساعدات بقيمة 7 ملايين دولار، ووفر الجسر الجوي الذي أقيم بطائرات بوينغ 747 وطائرة الشحن C130 الأغذية والمستلزمات الضرورية الأخرى حتى انتهى القصف.
ووصلت المساعدات المرسلة من المدينة العالمية للمساعدات الإنسانية إلى بقاع قاصية مثل فاوتو وهاييتي بواسطة طائرات تبرع بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ففي أعقاب الزلزال المدمر الذي ضرب مدينة بورت أو برنس عام 2010، تم إرسال 90 طناً من الإمدادات وإعادة العشرات من مواطني الدول العربية إلى بلدانهم. كما أرسلت المساعدات إلى هاييتي مرة أخرى بعد أن سبب الإعصار ماثيو دماراً كبيراً بالجزيرة وهي تحاول النهوض على قدميها من جديد.
وأكثر ما يحظى بالإعجاب لدى الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية ما تقدمه المدينة من دعم شخصي ومعنوي لموظفي الإغاثة الدوليين الذين يعايشون مخاطر العنف بصورة يومية. فعندما تعرضت مكاتب الأمم المتحدة ومساكنها في كابول وإسلام أباد لهجوم عام 2009، كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، من أرسل الطائرات لنقل موظفي الأمم المتحدة إلى دبي، حيث تلقى المصابون منهم الرعاية الطبية وأقيمت لهم المكاتب كي يتسنى لهم مواصلة عملهم. وفي ذروة تظاهرات الربيع العربي، قام بالشيء نفسه لكافة موظفي الأمم المتحدة في القاهرة.
وفي عام 2015، تم إجلاء 483 موظفاً أممياً من برنامج الغذاء العالمي ومفوضية شؤون اللاجئين واليونيسيف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي خلال 36 ساعة وتأمين ملاذ آمن لهم في دولة الإمارات.
والملفت في عمليات الإخلاء هذه هو أن الأمم المتحدة لم تضطر لطلب المساعدة أصلاً، بل قُدمت الطائرات دون أي ضجة إعلامية، حتى قبل توجيه طلب رسمي بذلك. فمثل هذه المساعدات تعني الكثير لموظفي الإغاثة في كفاحهم اليومي الدائم لإطعام الجوعى ومساعدة الضعفاء ورعاية اللاجئين في العالم. كما تبرز روح الشراكة التي تمنحنا الأمل بأن الأبطال المجهولين العاملين لدى الهلال الأحمر وغيره من المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة يمكن أن يوقفوا زحف أمواج المآسي التي تهددنا جميعاً.