لا نضوب لسيل الإبداع لدى عباس بيضون، الحائز أخيراً جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع الآداب -الدورة الـ11- عن روايته «خريف البراءة». إذ إنه، وفي كل مرة.. مع أي عمل جديد «روائياً كان أم شعرياً»، يحيلنا إلى عوالم خصبة يرويها بمخيلته وفكره النير الذي يعاين الواقع بذكاء فيشرّح تفاصيله ويضيء حيثياته ليفضح المسكوت عنه ويدين شتى اتجاهات وسلوكيات التشدد والظلم والقهر والاستعباد. وهو يحكي في حواره مع «البيان»، عن مضمون روايته.. والكثير من القضايا الأدبية والثقافية والمجتمعية.. كاشفاً أن في جعبته كثيراً من المخطوطات التي تنسج من الواقع روايات فيها كثير من الذاتية، وتنتظر النشر.

السؤال الذي لا بد من طرحه هو أن جائزة الشيخ زايد للكتاب تكرّسك كروائي، علماً أنك شاعر وصاحب تجربة شعرية كان لها حضورها البارز.. ماذا يعني أن يكرّس عباس بيضون روائياً؟ وهل تعدّ نفسك شاعراً يكتب رواية مثل شعراء كثر منهم لويس أراغون أو بوريس باسترناك، أم تعتبر أنك أصبحت روائياً ؟

أنا شاعر أولاً، لكن انتقالي إلى الرواية ليس مستغرباً، فلست الشاعر الأول الذي انتقل إلى الرواية. يمكنني أن أسمي عدداً كبيراً من الشعراء الذين كتبوا روايات. ثم أنني كاتب قصيدة نثر، ما يعني أن النثر شعراً أم رواية هو فني. أما الصلة بين شعرية النثر ونثريته، فهي موضوع يحتاج إلى بحث طويل.

الرواية الخامسة

«خريف البراءة» هي روايتك الخامسة، وهذا يعني أنك أصبحت روائياً محترفاً، هل هو خيار اتّخذته أم أنها الصدفة جاءت بك إلى عالم الرواية؟

عندي روايتان غير منشورتين، وروايتان في صدد النشر، فإذا أضيف ذلك إلى رواياتي المنشورة وكتبي النثرية بات العدد كبيراً ويضعني إلى جانب الروائيين المحترفين. وما حملني إلى الرواية الأولى «تحليل دم» هو رغبة في أن أسجّل جزءاً من حياتي وتاريخ أسرتي. والرواية التي كتبتها بعد «تحليل دم» لم أنشرها، لأني توغّلت فيها بحياتي الخاصة لدرجة قد تمسّ آخرين. كان قصدي من الرواية وخصوصاً في المرحلة الأولى، ليس روائياً، كانت الرواية فقط محلّ تسجيل.. هناك أمور عشتها واستغرقت جانباً كبيراً من حياتي، وكانت على أهمية بالنسبة لي، لدرجة جعلتني أسعى إلى تسجيلها في رواية قبل أن تضيع.

تجسّد «خريف البراءة» الواقع بعيداً من الوعظ، وهذه المرة بعيداً من الذاتية وأدب السيرة الذي عرفناك من أسياده؟ لكنك كتبت بلغة المتكلم هنا، فهل هناك شيء منك فيها؟

ما يهمني هو أن تحمل الكتابة لمسة الواقع وغياهبه. أكتب لهذا السبب. لا أكتب ما أعرفه وإنما ما ألمسه وأراه. الكتابة بهذا المعنى طين الحياة وترابها ومادتها. وبالنسبة للغة المتكلم، فأنا أفضلها من دون أي تفكير بذلك. معظم رواياتي بلغة المتكلم. وفي هذه الرواية، كان غسان جزءاً مني أو أقرب شخص لي، لأنه لا يحكي.

وثيقة فعلية

لماذا اخترت العنف والإرهاب الإسلاموي تحديداً، ليكون مدخل روايتك إلى فظاعة الواقع؟

الكتابة ليست اختباراً إرادياً. حتى حين لا تكون شعراً هي استغراق وتغلغل في حيّز نجد أنفسنا غصنا فيه. العنف ليس جديداً على كتابتي وهي قاسية وعنيفة وخصوصاً في الشعر. القسوة والعنف هما بالنسبة لي الشكل الذي تظهر فيه واقعية الأشياء. لا تنسي العنف الذي نعيشه والذي يملأ عالمنا منذ سنين. «خريف البراءة» مبنية في جانب منها على وثيقة فعلية هي الأخبار التي تصلنا عن الإرهاب الإسلاموي. والعنف واضح أنه ليس ابن يومه، وله تاريخ بالتأكيد. لكن الرواية هي أيضاً بنت لحظة ويمكن لهذه اللحظة أن تستوعب تاريخاً كاملاً وأن تكون صورة رمزية له. الرواية من القريب والبعيد تلامس ليس العنف الإسلاموي فحسب، ولكن العنف الذي سبقه وهو يمكن أن نسميه العنف الميليشيوي. ليس العنف وحده بل السخرية والوقاحة والقرف الذي يصاحبه.

العنف هنا يتصل بالحياة اليومية. هو عنف اجتماعي. وقد تعمّقت في تحليله سوسيولوجياً وسيكولوجياً في الرواية؟

عندما نكتب، نكتب كل ما لدينا. ليس السوسيولوجيا أو السيكولوجيا شرطاً، ولكن قد تدخل. بالنسبة لي كتبت ما لديّ، وإذا بدا أن ثمة ملمحاً سوسيولوجياً أو سيكولوجياً، فهذا يتصل بثقافتي الخاصة.. ومعرفتي ورؤيتي.

مخطط روائي

كنت منحازاً في «خريف البراءة» للمرأة وأبديت نزعة انتقادية للذكورية من خلال الأحداث والشخصيات. نسجت علاقة ملتبسة بين الابن والأم. فهل ذلك مقصود أو ممنهج في خطتك قبل الكتابة؟

عادة أضع مخطّطاً لروايتي، كبيراً وليس تفصيلياً. وقتل المرأة هو الحدث المركزي الذي وضعته أمامي قبل أن أبدأ الكتابة، ومن ثم هرب مسعود، وعلّقت عليهما التفاصيل الأخرى كافة. ولكن الأحداث الفرعية والتفاصيل أنتجها عادة أثناء غمار الكتابة. فلكل شيء كلامه، للقسوة كلامها، كما لأي شيء كلامه. اللغة دائماً أضعف من الواقع ولكنها إعادة تمثُّل وإعادة تمثيل وشخصنة للواقع. وهنا لم أفكر أبداً في رسالة أو عبرة أو عظة ولا أملك العظة لأحد.

«خريف البراءة»خريطة أحداث تحلــــــــــــــــــــــــــــــل بيئة الإرهاب

عبر سرد متدفّق مشدود ينقلنا الشاعر والروائي والكاتب الصحافي اللبناني عباس بيضون في روايته «خريف البراءة (دار الساقي)، الحائزة منذ أيام جائزة الشيخ زايد عن فئة الآداب، إلى عالم درامي غنيّ بالحكايات والشخصيات المتداخلة، ليوصّف لنا الراهن الفظيع ويومياتنا في مجتمعات مريضة يغزوها الكلام والشائعات التي تتحول كوابيس عنيفة تنتج في الحقيقة مجرمين.

يختار بيضون في روايته الخامسة هذه، أن يبدأ بأساس المشكلة وهي جريمة قتل يرتكبها مسعود بحق زوجته ويهرب إلى سوريا حيث يلتحق بجماعة إسلامية. يكبر ابنه غسّان في كنف خاله جواد يتيماً وحاملاً وزر جريمة أبيه وسمعة أمه التي حاكت الألسن عن شرفها روايات خيالية حاكتها أدمغة النسوة اللواتي لا يتعبن من الكلام. يعود مسعود بعد 18 سنة ويبدأ حملته في ترويع أهل البلدة والقضاء على كل من يعارضه. يقرّر غسّان اغتيال أبيه ثأراً لمقتل صديقه، لكنّ الأمور جرت في منحى آخر...

عودة وذعر

سرد حرّ بعيد من الوعظ والخطابية والتنظير، يسائل عبره بيضون الراهن العربي المتخبّط في تقسيماته وتغيراته الجيوسياسية التي يبرز الإرهاب في خضمها كمعضلة أساسية لا أحد قادر على ردعها، تماماً كما هو مسعود المجرم الذي عشق رائحة الدم ولم تروِه جريمة زوجته وغيرها من الجرائم ليعود إلى قريته ويبثّ فيها الذعر بعدما ارتاحت منه 18 سنة. حبّ مسعود للعنف كما يصوّره بيضون، يحيلنا إلى الإرهابيين الذين نسمع عنهم في مجالسنا اليوم أو في نشرات الأخبار أو في أفلام هوليوود أو في الأفلام الوثائقية، وهم جميعاً لهم قصص أسطورية مع القتل والتعذيب والقمع الذي لا يتحمّله عقل.

طبائع

مسعود في الرواية يجسّد ذاك الوحش الكاسر الذي يتغذى من الجثث ورائحة الدم وصار القتل روتيناً في حياته، تماماً كإرهابيي القاعدة وداعش الذين أصبحوا رموزاً للوحشية المعاصرة اليوم. ومع ذلك، نرفض أن نصدّق أن هؤلاء هم من طينتنا، وأولاد «حتّتنا»، ومن عرقنا وثقافتنا.. لكن بيضون هنا يدخل إلى أعماق ذاك الإرهاب وأصله، في تحليل نفسي – سوسيولوجي – تاريخي، لبيئة هؤلاء المجرمين ونشأتهم. ويغوص في المازوشية والسادية لطبائع الأب والابن وسلوكهما المترابط كأنه يدل على السبب والنتيجة، من خلال خريطة أحداث متداخلة تفضح العلاقات الملتبسة في الحياة العبثية. تلك العلاقات هي سرّ من أسرار الرواية التي يفاجئنا بيضون على طول الخط الدرامي المتأجج الذي يتّبعه، بقصص لا تخلو من العبثية والواقعية في آن.