الدخول إلى عوالم الكاتب والناقد السوري عزت عمر، الإبداعية والنقدية، يضعنا على تخوم سيرة حافلة بالعطاء والاشتغال الدائم على مشاريع مختلفة لها صلة عميقة بالمشهد الثقافي الإماراتي خصوصاً، والعربي عموماً، ليبدو أن عزت عمر ومن خلال مجموعة مؤلفاته قد استطاع التأسيس لمشروع معرفي، يفيض بذائقة نقدية متجذرة، بسبب اطلاعه الدائم على جديد الإنتاجات الأدبية والفكرية.
ومعرفته الجيدة بمختلف المدارس والتيارات النقدية الحديثة، ليبدو أنه ومن خلال مؤلفاته قد عاش مع شخصيات عظيمة أثرت المشهد الثقافي العربي، فكان أن نهل منها الكثير، ليغني ذائقته الأدبية التي أفاد بها المشهد الثقافي الإماراتي من خلال النقد.
كما في كتابه «خلفان بن مصبح / طائر الشعر القرير» الذي يعد الأحدث في قائمته، حيث يسلط فيه الضوء على أحد أبرز شعراء منطقة الحيرة، وينقب بين أشعاره، ليكشف لنا عن طفرة إبداعية.
في حواره مع «بيان الكتب» يؤكد عزت عمر، أن «الوقت قد آن لأن يحتل الشاعر الإماراتي خلفان بن مصبح مكانته»، واصفاً إياه بـ«القاص والشاعر في الوقت نفسه»، منوهاً إلى أن الشاعر خلفان بن مصبح كان مميزاً ومبدعاً، وأن الدراسات والكتب التي عكف عليها بعض المهتمين بالتراث والشعر المحلي، قد ساهمت في إنقاذه من النسيان، خاصة وأنه ـ أي خلفان ـ قد وجد في النصف الأول من القرن العشرين، التي شهدت بروز عدد من الشعراء العرب الذين يشار إليهم بالبنان.
في قراءتك وتحليلك لشعر خلفان بن مصبح، لاحظنا وجود مقارنة بينه وبين شعراء آخرين بعضهم جاء في زمنه وآخرون سبقوا عصره، فلماذا هذه المقارنة؟
المسألة مرتبطة بمنهجي البحثي في تحليل النصوص الشعرية والسردية للكشف عن مصادر المبدع الشعرية في ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين، إذ لا بدّ وأن يكون لكلّ شاعر مرجعياته التي ستعبّر بالضرورة عن ثقافته ووعيه، ثم مقارنة ما استجد لديه، ومع مَن تأثر بهم والإضافة التي قدّمها إن كان ثمة إضافة، إنها بالأحرى نوع من الموضعة التي عملت على تبيانها.
لا سيّما وأن خلفان بن مصبح، عاش في زمان وجغرافيا يبتعدان على هذا النحو أو ذاك عن اهتمام وسائل الإعلام والنخب الثقافية العربية، وقد آن له أن يحتلّ المكانة التي يستحقّها في الذاكرة الشعرية العربية، وبتقديري أن هذا من حقّه.
أساس
كيف تقرأ البنية الدرامية التي تميزت بها قصائد الشاعر خلفان بن مصبح، وأين تجد مكامن قوته بشكل عام؟
البنية الدرامية هي بالأساس اجتراح إبداعي وجمالي في النص الشعري، يرتبط بالذائقة والحساسية الشعرية تعبيراً عن رؤية الشاعر لذاته وللعالم، لا سيّما وأن خلفان بن مصبح، كان يسعى لتأكيد جدارته في وسط شعري برزت فيه أسماء كبيرة، سواء في «حلقة الحيرة الشعرية» أو في غيرها.
تذكر في كتابك، أن الشاعر خلفان بن مصبح، ربما تأثر بشعر عمر بن أبي ربيعة في تبنيه لفكرة شعر الحب، وتضمين القصة في نصوصه، كما في قصيدته «ركوب البحر»، فكيف ترى هذا التأثر وإلى أي حد انعكس على قصائد خلفان وأكسبها القوة؟
في الحقيقة لا تتجلّى البنية السردية في قصيدة «ركوب البحر» وحدها، وإنما في سائر قصائده المعبّرة عن حبّه ومعاناته مع المرض، وبذلك يمكن اعتباره قاصاً وشاعراً في الوقت نفسه، وتلك حال استثنائية قلّما شهدنا لها مثيلاً، ولذلك كان لا بدّ من التذكير برائد هذا الفن في التراث العربي: الشاعر عمر بن أبي ربيعة رائد ومؤسس ما أسميناه بـ«تراث الحب» الذي ما انفك يتراكم من ذلك الزمان ويقدّم مقترحاته في هذا الحقل المعبّر بالضرورة عن ذائقة جمالية خاصة، ولكنها ترتبط بالذائقة الجمالية العربية التي ينبغي الاعتزاز بها، وبهذا التراث الغني الذي برزت فيه أسماء كثيرة.
مصيران متشابهان
تنوعت القصيدة في شعر خلفان بن مصبح. فكتب في معظم أنواع الشعر.. من خلال بحثك وقراءتك لأعماله، إلى أي مدى تشعر بأنه ترك بصمة واضحة في معظم هذه المجالات، خاصة وأن الشاعر وجد في زمن الشابي نفسه؟
سؤال طويل إجابته تكمن في الموضوعات التي تناولناها في الكتاب، من مثل: شفافيّة التعبير عن الوجدان، التفاعل مع الطبيعة، تداول تراث الغزل، شاعريّة المعاناة والألم..فضلاً عن مقترحاته الجمالية والبنائية: في المتناصات الشعرية والقرآنية، في البنية السردية، وفي تناول مفردات الحياة اليومية في عدد من قصائده، من مثل:
البق والميسم والراديو وما سواها، وكان هذا النوع من الموضوعات والمفردات أو ما اصطلح عليه في نقد ذلك الزمان بـ(المبتذل) إنما هو وعي مبكر وأقرب إلى مغامرة قصيدة الحداثة غير المستحبّة في ذلك الزمان.
أما بالنسبة للشاعر الشابي فذكّرنا بتشابه المصيرين والموت المبكر، غير أن التجربتين مختلفتان، ولربّما برأيي، كان خلفان أكثر جرأة من الشابي في التعامل مع نصّه بحساسيته الإبداعية الخاصة، لأنه على الأقل لم يكن مؤطّراً بفكر وآراء الرومانسية التي كانت منصرفة إلى عوالم أبوللو وأورفيوس وبروميثيوس سارق النار وغيرها ..
بالمقارنة بين أشعار خلفان بن مصبح، مع شعراء الإمارات والخليج العربي اليوم، هل تشعر بأن هناك أي تأثر بتجربته، وإذا وجد هذا التأثر فما شكله وحجمه؟
وأنت في بلاد الشعر لا تستطيع أن تحدد مَن تأثر بغيره إلا في إطار البحث في شعر كل شاعر على حدة، وخلفان بن مصبح كان مميزاً ومبدعاً بلا شكّ.
وكان النسيان قد طواه لولا دراسة الأديب إبراهيم محمد بو ملحة في كتابه عن الشاعر وحياته وشعره 2004، والجهد الفائق الذي بذله شوقي رافع في جمع أشعاره وترتيبها في ديوان أسماه «الشاعر الجامح» في عام 1991/ 2004، فضلاً عن عدد محدود من الدراسات التي جمعت وأدرجت في مقدّمة الديوان، وآمل أن تكون دراستنا هذه قدّمت جديداً على صعيد المنهج التحليلي الذي وظّفناه لدراسة نصوصه.
«طائر الشعر» الذي كتب قصائده بماء الورد
يفرد الناقد عزت عمر، في نحو 160 صفحة، حكاية الشاعر الإماراتي خلفان بن مصبح، في كتابه «خلفان بن مصبح / طائر الشعر القرير- تحليل الخطاب الشعري»، الصادر عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، ضمن سلسلة أعلام من الإمارات، التي أطلقتها المؤسسة في محاولة منها لإلقاء الضوء على الأعلام الذين أثروا الحياة في الإمارات، والساحة الثقافية فيها بشكل خاص.
في هذا الكتاب، يلقي عزت عمر، الضوء على الشاعر خلفان بن مصبح، الذي يعد واحداً من أبرز شعراء الحيرة، الذين وجدوا في منطقة الحيرة بين إمارتي الشارقة وعجمان، التي كانت مركزاً تجارياً دأب على استقطاب تجار اللؤلؤ في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما انعكس على الحياة الثقافية والاجتماعية فيها، حيث شهدت بروز جيل ساهم في إحداث حراك ثقافي ملحوظ، لا سيما في الشعر.
ابتعاد المسافات
في كتابه، يذكر لنا عمر، شيئاً من سيرة الشاعر خلفان بن مصبح بن خلفان الشويهي (1923 -1946)، الذي استطاع أن يثري بشعره الحركة الثقافية الإماراتية، رغم أنه عاش فترة قصيرة، فقد رحل عن الدنيا، وهو لا يزال في ريعان الشباب، بعد صراع مرير مع مرض السل.
ورغم ذلك بدا الشاعر خلفان، بحسب الكاتب، طفرة إبداعية، وهو الذي وجد في زمن الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، الذي رحل هو الآخر في عمر لم يتجاوز الـ 25 سنة، بعد أن سجل اسمه في قائمة الخالدين، إلا أن الفرق بين الشاعرين كان يكمن في طبيعة الظروف، ففي الوقت الذي نال فيه الشابي نصيبه من الشهرة، لم ينتشر اسم خلفان عربياً، لابتعاد المسافات وانقطاع التواصل في المنطقة العربية آنذاك،.
ولكن، وفق وصف الكاتب، فالشاعر خلفان لا يقل إبداعاً عن ثلة الشعراء الذين وجدوا معه في تلك الفترة، فقد ترك مجموعة قصائد غنية، تحكي ظروف حياته، وتعكس الحالة الثقافية التي عاش خلالها الشاعر وعلاقته بعصره، إلا أنه لم يتمكن من جمعها في ديوان واحد، بسبب رحيله، وهي مهمة تولاها المهتمون بالتراث الشعري الإماراتي، حيث نشرت قصائده في ديوان سمي بـ«الشاعر الجامح» وفي طبعة ثانية «ديوان خلفان بن مصبح».
رباعيات
في دراسته، يركز عزت عمر على تحليل الخطاب الشعري، لديوان خلفان، باعتباره لحظة إبداعية ترتبط بالزمان والمكان وبثقافة العصر الذي وجد فيه، وما ارتبط فيه من مؤثرات تراثية وتفاعلية مع محيطه، فإلى جانب كونه شاعراً امتلك الجرأة في التنديد بالمستعمر، كان حساساً يكتب قصائده بماء الورد، وفق ما نقله الكاتب عن الأديب عبد الإله عبد القادر.
ثقافة ثرية
خلفان بن مصبح، ذاق مرارة اليتم مبكراً، وهو في الثانية من عمره، وكفله جده لأمه والذي أحسن تربيته، وتلقى تعليمه في الكتاتيب، وكان نهم القراءة والمطالعة، وهو ما أثرى ثقافته، ومكّنه من الإبحار في الشعر، على اختلاف أنواعه وأنماطه.
وتنوعت موضوعات قصائده، حيث يذكر الكاتب أن «الديوان الجامع لها يتألف من 32 نصاً شعرياً، نصفه مقطوعات قصيرة أشبه بالرباعيات، ونصفه الآخر يوصف بالقصائد المتوسطة والطويلة، وعبر في بعضها عما سببه له المرض من غربة وانقطاع عن الناس، وعدم قدرته على السير في نهر الحياة، ورغم ما عاناه جسد الشاعر من مرض، إلا أن عقله ظل متقداً، قادراً على التعبير عما يجول في نفسه.
* الشاعر الإماراتي عاش في زمان وجغرافيا يبتعدان عن اهتمام الإعلام ونخب الثقافة
* طالما سعى لتأكيد جدارته في وسط شعري برزت فيه أسماء كبيرة
* يمكننا اعتباره حالة إبداعية فريدة قلّما شهدنا لها مثيلاً
* برع في توظيف المتفاعلات النصّية المرتبطة بـ«تراث الحبّ» المتناغم والطبيعة
* كان أكثر جرأة من الشابي في التعامل مع نصّه بحساسيته الإبداعية الخاصة
* لم يكن مؤطراً بفكر الرومانسية التي انصرفت إلى عوالم أبوللو وأورفيوس