شعبية ومكانة بارزتان على مستوى العالم، حازتهما الكاتبة المكسيكية أورا زيلونين، بفضل روايتها «بطل الغرينغو» عن دار «يوروبا»، التي أصدرتها بينما لا تزال في الـ19 من عمرها. وقد حصدت، فور نشرها لهذه الرواية، جائزة «موريسيو» أشار الممنوحة للأصوات الجديدة في مجال الأدب، كما ترجمت الرواية إلى ست لغات عالمية.
وتؤكد الكاتبة في حوار أجرته معها أخيراً، مجلة أدبية متخصصة «ذي رمبس»، أن مرارات الهجرة، والتي خبرتها شخصياً، تمثل الذخر الأساسي في عوالم الكتابة والإبداع لديها، إذ تكتب عن معاناة المهاجرين وما يلاقونه من ويلات، لافتة إلى أن تلك حوادث وقصص مرت بها أيضا، عائلتها، وبشكل متكرر.
وتالياً نص الحوار الذي أجرته محررة المجلة المذكورة، اندريا بنمان- لوميلي:
كيف بدأت كتابة روايتك ؟ ففي مقابلة مع مجلة «ليترا ليبرس» ذكرت أن هذا العمل جاء على الأقل من القصص العائلية...
هذا صحيح، إلا أنه لا يقتصر على الروايات التي سمعتها من عائلتي وإنما من تجربتي الشخصية أيضا، والخوف والرهبة التي مررنا بها. وكذلك جمعت بعض الحكايات من خلال التعرف على تفاصيل من تجربة جدتي العملية، فهي سافرت إلى الولايات المتحدة كما يسافر الذين لا يحملون أوراقا ثبوتية، وعندما تتم إعادتهم إلى المكسيك يتحدثون عن الخطر الذي أحاط بهم كما لو أنهم يتحدثون عن وباء.
ويتحدثون عن الحدود كما لو أنها ضرب من أشكال الجحيم، وكيف أنهم أثناء عبورهم الصحراء كانوا عوضا عن العرق يتفصدون نارا. ومن القصص المهمة ما سمعته من جدي، فعندما تم تشخيص حالته كمريض بالسكري يعاني من مرض في قدمه تم استئصال إصبعين منها، ما أبقاه طريح الفراش طوال عام تقريبا.
وكنت أجلس إلى جانبه وأستمع إلى قصصه، قصص عن سعيه لأن يصبح مصارع ثيران وملاكما ولاعب كرة وقسيسا وصحافيا وموسيقيا وشاعرا. لقد كان يتألم في تلك الأثناء، ولم ينتظر حتى تتسنى له مغادرة الفراش ليسرد حكاياته السياسية.
وبعد أشهر قليلة من شفائه أخذ يعاني من الاحتشاء الدماغي، ولم يشفَ ومات بعد أربع سنوات. الواقع أن جزءاً من التحفيز على كتابة روايتي أتى من الرغبة في الحفاظ على ما تبقى من ذاكرته وذاكرتي التي تستند إليها، ومن محاولة رسم صورة لأجدادي بشكل أو بآخر.
هلا شرحت لنا شيئا عن كيفية الوصول إلى هذه الشخصية ليبوريو، تحديدا؟ الواضح أنكما مختلفان كثيرا. ما هي التجربة التي ألهمتك ؟
رغم أن كل الشخصيات الموجودة في الرواية تعكس الكثير من صفاتي، إلا أن هنالك أيضا أناساً آخرين يشبهونهم.
فعلى سبيل المثال: عينا ليبوريو اللتان كانتا تؤلمانه عندما بدأ بقراءة الكتب، لقد كنت أشعر دوما بحرقة في العين بعد القراءة، وكذلك فإنني أشبه «آيرين» خاصة عندما يأتي ذكر والدها المريض، الواقع أنه عندما يتألم أحدنا ويتعذر عليه التفكير من جهة، فإن ذلك يولد لديه شعوراً غريباً، ولكن فجأة تمطر السماء وتبكي آيرين.
رئيسي من جهة أخرى، يبدو كما لو أنه يحرضني على القراءة، وهو بالمناسبة الذي جعلني أقرأ قاموسا بأكمله. لقد قال لي «إننا نحن اللغة» وأن تعقيداتنا الفكرية يمكن شرحها فقط من خلال مفردات مشابهة. وقال أيضا «إن أفكارنا تنمو أو تنكمش حسب استخدامنا للغة».
حياة مفعمة بالمتغيرات
لماذا جعلت القصة تدور حول حياة مهاجر إلى الولايات المتحدة تحديدا؟ لماذا لا تكون عن بلد آخر؟
إنها القصة التي أمتعتني، وبالمناسبة فقد أقمت في ألمانيا كمهاجرة غير شرعية، وبالتالي فأنا أدرك جيداً ما أتكلم عنه، فعلى الرغم من استمتاعي بالحياة هناك، إلا أنني كنت حذرة وخائفة باستمرار، وأتذكر أن خالتي كانت توبخنا لو أحدثنا إزعاجا في شقتها خشية أن يكتشف المالك وجودنا.
وعندما التحقت بمدرستي الجديدة لم أكن أتحدث اللغة الألمانية، وكان زملائي من دول مثل تركيا والعالم العربي والصين لا يعرفون الإسبانية، فكنا نتواصل بالإشارة. وبعد سنتين عدنا إلى المكسيك ليتم اقتلاعي. لقد كانت حياتي مليئة بالتغيير في مرحلة الطفولة. والواقع أنني أختار الولايات المتحدة لأنني أراها في كل مكان، أراها في حكايات جدي وأعمال جدتي، وفي الأفلام وفي قصص أعمامي.
اللغة والخطاب جزء لا يتجزأ من النص، هلا قلت لنا شيئا عن الترجمة وكيف اتفقتما: أنت ومترجمتك أندريا روسنبيرغ، على هذه الصيغة؟ وهل تعتقدين أنها تحدث الآن الأثر نفسه الذي تحدثه الإسبانية في القارئ؟
كانت عملية الترجمة تحديا حقيقيا واستغرقت وقتا طويلا نسبيا بسبب اللغة التي أستخدمها في الرواية، ولهذا فأنا ممتنة لأندريا التي قامت بعمل متقن وكذلك لمترجمتي الفرنسية: جوليا شاردفوا.
قناعات
أعجبتني الطريقة التي تكتبين فيها عن شخصياتك النسائية، فهن دائما واثقات وقويات، هل تتعمدين ذلك؟
بالفعل، إن آيرين قوية على نحو استثنائي، وكانت تعاني على نحو يفوق معاناة ليبوريو، وهي امرأة جميلة ومتماسكة ولا يمكن خداعها، ظلت تعمل لكسب العيش. وصحيح أيضا أن «ناعومي» متطفلة ولكنها ملتزمة بمبادئها وكانت تحلم بأن تكون محامية تدافع عن المهاجرين واستمرت تقاتل من أجل قناعاتها.
«بطل الغرينغو» سرد مضاد ينتصر للمعذّبين في عالمنا
التطرق لموضوع الهجرة غير الشرعية في الأدب ليس جديدا، ولكنه من الموضوعات المتجددة التي يتم البحث فيها من زوايا عدة. في هذا الإطار تأتي رواية الكاتبة المكسيكية أورا زيلونين تحت عنوان «بطل الغرينغو»، الصادرة ترجمتها من الإسبانية إلى الإنجليزية 2017 عن دار «»يوروبا المكسيكية«.
بداية، تسعى المؤلفة للوصول إلى توصيف مضاد للصيغة النمطية حول الهجرة غير الشرعية والمهاجرين غير الشرعيين، وبناء عليه فإن مما يلفت الانتباه إلى كتابتها ميلها إلى أسطرة الظاهرة واختيار أسلوب للتعبير عنها هو صيغة تبدو سينمائية، وباروكية قلقة باحثة في الإنسان والعالم.
تسلط الرواية الضوء على الراوي» ليبوريو«17 عاماً، الشخصية الرئيسية. وهو متوتر، حياته مثيرة، مهاجر من المكسيك إلى الولايات المتحدة يتحول إلى ملاكم قوي بفعل إرادة الحياة، وعبر ملف الهجرة غير الشرعية تمرر المؤلفة مذكراته اليومية.
«تعالٍ ثقافي»
وحول الرواية يعلق إغناسيو سانتشيز برادو، أستاذ الدراسات الإسبانية والأميركية اللاتينية في جامعة واشنطن على ترجمة الأعمال الإبداعية والثقافية والتاريخية المكسيكية، التي باتت تنشر في أميركا الشمالية حاليا، بقوله لا يمكن استثناء الأدب من الإشكالية، وفي عالم دأب على إهمال الترجمة، أصبحت المكسيك مجهولة.
ومنذ سبعينيات القرن العشرين إلى اليوم، فإن أعمالاً مهمة لم تترجم إلا نادرا. والواقع أن هناك العديد من الأسباب التي تقف وراء هذا، منها عدم ميل القراء من أفراد النخبة الأميركية إلى الإطلاع على ما يتم نشره عالميا، أما الشيء الآخر فهو هذا النوع من»التعالي الثقافي«.
والحقيقة أنها صورة منفردة وجماعية معا، فكأنما هي الصورة ذاتها التي يعيش في إطارها الجميع، حياة من دون حد الاقتراب، غير رسمية، وهم على الرغم من ذلك يقاتلون من أجلها. وها هو ليبوريو يتحول إلى ملاكم يومي في الشوارع.
فبعد عبوره الصحراء وقطعه لنهر»ريو غراند«سباحة، يجد نفسه في إحدى مدن الولايات المتحدة، ملاحقا بالعنف والإيذاء الجسدي من قبل عصابات سفاحين وأشخاص يقذفونه بألفاظ طائفية وعنصرية، أو من يضطرونه إلى منازلتهم لتنقل المشاهد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك رجال الأمن الذين يقتفون أثر المهاجرين غير الشرعيين، ولكنه رغم ذلك يظل صامدا بفضل حذقه.
انسياب وتوتّر
يتحدث ليبوريو عن نفسه بعصبية ودون توقف، مستخدما لغة هجين ممزوجة بين لغته المكسيكية الحدودية ولغة أخرى تحاكي لغة النخبة الاجتماعية الأميركية. وبعد أن يوجعنا، تخفف الكاتبة عن القارئ بأن تذكر له تفاصيل ملطفة فتخبره بالعلاقة بينه وبين» آيرين«. كما تذكر بعض المواقف الإنسانية حين يمد له مشردون أو صحفيون أو مدربو ملاكمة، يد العون.
لقد ظل يعيش متنقلاً بين بيئة وأخرى ومهنة وأخرى ورؤساء عمل مختلفين. وفي مرة اكتشف أنه في محل لبيع الكتب الإسبانية، فحمله ذلك على التوقف أمام العناوين والتهم قاموسا للغة الإسبانية ظنا منه بأن ذلك سيمكنه من فهم الشعر المكتوب بها، ثم بصقه وقرأ كتاب» العصر الذهبي للشعر الإسباني«ثم عبر إلى فيرجل ودانتي وهومر وبلزاك وأوستن..وغيرهم. ولكنه لم يتوقف عن التحدث بلكنته، والتي تبقى لغة زيلونين متوترة، منسابة، لا فواصل أحيانا ولا فصول.
والواضح أننا مع هذا العمل، أمام نموذج استثنائي يطفو على سطح أزمة كبرى: الهجرة غير الشرعية. إنه عالم يتشكل على هامش عالمنا، وهو التحدي، صورة تستحق فعلاً أن تكون فيلماً سينمائياً للكاتبة زيلونين، قد نشاهد فيه الأشياء التي لا نراها بالعين المجردة.
جروح غائرة
تصور لنا الكاتبة هول المعاناة جراء الهجرة غير الشرعية، عبر مقاطع كثيرة، ومن ذلك: «ذات مساء، بعد استلامنا لمرتباتنا في مزرعة القطن، هرعنا إلى المدينة لمشاهدة مباراة بين فريق البيسبول المكسيكي والفريق الأميركي في أحد النوادي.
صعدنا شاحنة توجهت بنا نحو الطريق السريع.. كانوا يتوقون إلى الشرب وإلى مشاهدة الكرة السخيفة، أما أنا فكنت أبحث عن مكان لبيع الصودا.. وصلنا إلى نادٍ.. في الأثناء، تذكرت اللحظة التي أحضروني فيها إلى المزرعة، ثلاثة رجال أنزلوني من الشاحنة ووضعوني في غرفة في الجزء الخلفي من ثكنة بالقرب من منحدر، ثم أجلسوني مغطى بالكمادات الباردة.. أحد الرجال كان يحقنني بمضاد كلما استيقظت، ظنا منهم أن ذلك سيحفظ جروحي من الالتهاب».