يتناول الروائي الفلسطيني عاطف أبوسيف قضية فلسطين، من جديد في روايته «الحاجة كريستينا»، التي أهلته للوصول إلى القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» 2018، وذلك بعد أن قدم من قبل «حياة ميتة» و«ليلة سامر» و«حياة معلقة».
ويسعى أبوسيف من خلال هذه الروايات إلى محاكاة أحلام الناس، إذ أوضح في حديثه لـ «بيان الكتب»، أن «إهمال الناس للقراءة ليس بسبب ضيق الوقت، بل لأنهم يبحثون عن عالمهم وأحلامهم فيما يقرأون».
وأبوسيف الذي يرى أن للأدب أوجهاً مختلفة كما للحياة، أصدر أعمالاً في مجالات مختلفة كالدراسات والمسرح والقصة القصيرة. وبرر هذه التعددية بقوله: «إن عالم الكتابة متنوع، وآمل أن أكون وفياً للعالم الذي منحني كل هذه القصص وللعالم الذي خلقته في رواياتي»، كما كشف عن الكثير من مشاريعه وطموحه من خلال هذا الحوار، والذي يشدد فيه على أن الأدب الجيد عابر للزمن وقادر على البقاء في حيز التفاعل.
تتناول من جديد في روايتك «الحاجة كريستينا» القضية الفلسطينية، فهل نعتبر أن فلسطين هاجسك الروائي الدائم؟
الكاتب يكتب واقعه، وقد أردت منذ البداية أن أكون وفياً للعالم الذي أكتب، وللناس الذين تربيت وأنا أسمع حكاياتهم عن زمنهم الجميل قبل النكبة وعن واقعهم الأليم بعد ذلك. حكايات تجمع بين نقيضين، يشكلان عالمهم، فالحنين للماضي ومحاولة العيش في الحاضر، تناقض أظنه أساسا جيدا للدراما، فالبطل المفجوع لكن القادر على المواصلة، هو مثل «الحاجة كريستينا» تماماً.
وأظن أنني كنت في طفولتي بمقدرة هؤلاء على سرد القصص والحكايات عن طفولتهم على شواطئ البحر في يافا وفي حقول القمح وبيارات البرتقال، ثم تختفي البسمة لتُسح الدموع على الخدود وهم يروون هول الكارثة والفاجعة وهم يسيرون خارج بيوتهم بحثاً عن مأمن.
في مرات كثيرة أردت أن أعبر بحكاياتهم الزمن، نحو زمن آخر. فالحكايات الشخصية هي حكايات عامة، كما أننا حين نوطن الحكايات في عالم الأدب لا تعود حكايات محلية، لأن الألم والحلم والتناقض هي شروط إنسانية خالصة ولا يمكن أن تنحصر في جغرافيا الروح فقط.
وبالقدر ذاته أنت ككاتب تريد أن تكون وفياً للشرط الفني الذي يجعل من عملك عملاً فنياً جيداً. كما أنك تريد لحكايتك أن تعني شيئاً للقارئ.
الأدب يجب أن يعني شيئاً للناس، إنه ليس مجرد حكايات تروى، فالأدب يجب أن يكون له رسالة.
وفلسطين في كل ذلك، ليس بوصفها قضية وطنية، وهذا مهم بالنسبة لي، لأنني بدلاً من أن أولد في (يافا) المدينة الأجمل، ولدت في مخيم للاجئين.
وبدلاً من العيش والعالم يقف خلف الموجة التي تضرب عتبة بيتنا هناك، عشت في مخيم محاصر مغلق المنافذ، والناس هناك إلى جانب حنينهم الأبدي لموطن صباهم وأحلامهم، وإلى جانب نضالهم التحرري، هم أيضاً بشر يحبون ويكرهون ويغارون، وفيهم من يبحث عن حلمه وخلاصه، وعليه فإن العالم والحلم الفلسطيني مليئان بالحياة والتفاصيل.
جدلية المنفى
لماذا اخترت لـ «كريستينا»، في روايتك، أن تهاجر وتعود وتختفي ثم تعود بهيئة جديدة؟
قدر «كريستينا» هو قدر الفلسطيني، فهو أجبر على ترك وطنه لكن حلمه الذي لا يتخلى عنه هو أن يعود إليه، فالمنفى والوطن جدلية الحياة في فلسطين.
والناس في المخيم مازالت تبني بيوتها بطريقة عشوائية حتى بعد سبعين عاماً من النكبة لإيمانها بأنها ستعود، فالحلم الفلسطيني لا يتم على وسادة وثيرة، بل على قارعة طريق مليء بالألم، وللحفاظ عليه نحتاج الكثير من الإصرار والعناد، الذي تميزت به «كريستينا» التي تصر في آخر الرواية أن تعود إلى فلسطين ولو على سفينة من سفن كسر الحصار.
فمصيرها هو ذاته المصير الجمعي للفلسطينيين، والشبح الذي يظهر في أول الرواية هو شبح السؤال حول هذا المصير، بعيداً عن دلالته المباشرة في الرواية بما هو إشارة إلى عالم الغائبين المترع بالحكايات، العالم الذي تكون «كريستينا» دائماً أحد أبطاله.
ويظل التغلب على الواقع أحد ميزات حياة الفلسطيني، كل الناس تغادر أوطانها، لكن في الحالة الفلسطينية ثمة اقتلاع عنيف وسطو على حكاية الفلسطيني عن بلاده، ومزور كبير يريد أن يحرف التاريخ، وهناك من يحاول إحلال شعب مكان شعب آخر، من هنا فإن الفلسطيني لا قبلة له إلا فلسطين، لهذا فإن حياة «كريستينا» بين النفي والعودة بين الضياع والوطن تجسيد للحقيقة التي أردت أن أكون وفياً لها عن هؤلاء الناس الذين ترعرعت بين قصصهم وكبرت على حكاياتهم.
تناول عدد من الكتاب غير الفلسطينيين في بعض أعمالهم القضية الفلسطينية، بمرور سريع أو معمق، فما الفرق بين أن يتناول الروائيون العرب فلسطين، وبين أن يتناولها روائي يعيش في فلسطين؟
للمكان أهمية كبيرة بالطبع، وحين يعيش الكاتب في الأماكن التي يتحدث عنها فإنه يكون أكثر صدقاً، مثلاً حين أتحدث عن يافا أعيد رسم تفاصيلها التي حفظتها من ذاكرة جدتي، فالطفل الذي كنته أعاد تكوين المدينة، بجانب تمكني من زيارة المدينة أكثر من مرة، حيث مازال لدي أقارب يعيشون هناك.
لكن القصة ليست في المكان، بل في التجربة، والإحساس الذي تعطينا إياه الحكاية، فلا يكفي المرء أن يزور المكان حتى يتحدث عنه، بل هو بحاجة لهذه المشاعر التي يملكها من يعيشها فيه وهو يتحدث عنه.
في قوائم البوكر
وصلت «الحاجة كريستينا» إلى القائمة الطويلة في البوكر العربية لهذا العام، ومن قبل وصلت «حياة معلقة» إلى القائمة القصيرة، فما أهمية هذا بالنسبة لتجربتك الروائية؟
كان وصول «حياة معلقة» مفاجأة كبيرة بالنسبة لي، حيث كانت أول رواية أنشرها خارج غزة. سعدت كثيراً، فالرواية التي لم أكن قد رأيتها مطبوعة، بسبب الحصار المفروض على غزة، وصلت القائمة القصيرة للجائزة، إذاً تغلبت الرواية على الواقع الذي تتحدث عنه.
وكان اختيار «الحاجة كريستينا» للقائمة الطويلة مفاجئاً أيضاً، وفرحت كثيراً بهذا، لأن غاية الكاتب بجانب رسالته الفنية والإنسانية أن تجد القصص والحكايات التي يرويها التقدير من قبل القراء.
أصدرت كتاباً في الفكر السياسي حول المجتمع المدني والدولة، فلماذا اتجهت إلى الكتابة الفكرية؟
في دراستي الجامعية الأولى درست الأدب الإنجليزي. لكنني اتجهت في دراساتي العليا للسياسة الأوروبية. وأظن أن دراسة السياسة ساعدتني على فهم أكبر لمركبات القوة والصراعات داخل المجتمعات، وهذا ساعد على تطور كتاباتي بعد ذلك.
هل لك أن تحدثنا عن تجربتك بالكتابة المسرحية؟
كتبت خمس مسرحيات تعالج قضايا مختلفة منها ما له علاقة بواقع المرأة ومنها ما عالج الانقسام الفلسطيني.. ومنها ما عالج الهم الوطني.
ما الجديد الذي تعمل عليه الآن؟
أعمل على روايتي الجديدة «مشاة لا يعبرون الطريق» منذ نصف عام. لأول مرة أجدني ملزماً بكتابتها كاملة بخط اليد، لأن الكهرباء في غزة لا تأتي إلا 4 ساعات في اليوم، وحين تحين لي الفرصة أقوم بطباعة ما كتبت في (بيت الصحافة) الذي يديره صديقي، حيث تتوافر الطاقة البديلة.
«كريستينا» سردية ترصد ويلات النكبة برؤية جديدة
يعود عاطف أبوسيف في روايته «الحاجة كريستينا» لسرد ملحمة نكبة الفلسطينيين ولجوئهم وأوجاعهم برؤية جديدة ولافتة من خلال قصة «كريستينا» أو «فضة» التي تغادر يافا مجبرة للعلاج فتحدث النكبة وهي في الخارج.
وبدلاً من أن تعود ليافا التي غادرتها تعود إلى مخيم اللاجئين، وتشاركهم نضالهم ضد قسوة الحياة والبحث عن وطنهم الضائع. فـ«كريستينا» التي تحمل الجنسية الفلسطينية بقي همها الأساسي خلال وجودها في لندن كيف تعود إلى غزة.
العودة
في الرواية الصادرة للمرة الأولى عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان عام 2016، يسرد الكاتب قصة الفتاة العشرينية الجميلة التي تظهر مع حقيبة سفر في طريق رملي يتفرع عن محطة سكة حديد غزة في أحد أيام (فبراير) 1958.
وتحمل مع حقيبتها أسئلة لا نهاية لها، فهي الآن تعود لوطنها بعد 11 عاماً من مغادرته، إذ كانت حينها طفلة في 11 من عمرها، غادرت للعلاج في لندن على أساس أن تعود لوالديها، لكن حال دون ذلك تنفيذ وعد بلفور. فبقيت «فضة» تعيش بعيدة عن أهلها في لندن، في كنف «جورج» الذي عاملها كابنته وسماها «كريستينا».
حكايات خاصة
في الوطن اقتلعت عائلة «فضة» وهُجرت مع مئات الألوف شمالاً أو جنوباً، وانتهت عائلات وأقارب العائلة في مخيمات نصبت على عجل في شمال «غزة».
وفي المقابل بقيت «فضة» تحلم بالعودة إلى والديها حتى لو لم تكن تلك العودة إلى بيت يافا الدافئ. وذلك بعد أن عرفت من جورج أن أهل يافا طُردوا منها وأن عائلتها قد استقرت على الأغلب في غزة. وبين كل هذه الأحداث يظهر الكاتب «كريستينا» التي أدمنت الوجع والمرارات لدرجة تحولت فيها إلى شبه قديسة، فهي لا تكتفي بحكايات الماضي، بل تصنع حكاياتها الخاصة، وحكايات من حولها.
فتعيش عوالم عدة من فلسطين ما قبل النكبة، وما بعد النكبة، ومخيمات غزة ونكباتها المتتالية وحرب إسرائيل على القطاع عام 2009.
فالحاجة «كريستينا» ليست امرأة عادية، وعابرة في زمن ومكان معينين، بل تجسد صورة اللعنة التي لاحقتها منذ كانت يافعة والاقتلاع من الوطن، لهذا تظهر «كريستينا» بطريقة غير مكتملة، وتختفي في يوم ما من المخيم. وتعود بهيئة أخرى في دلالة على الأجزاء التي تمزقت في قلب فضة ما بين طفولتها والزمن الحالي.
سيرة
عاطف أبوسيف روائي فلسطيني أصدر مجموعة من الروايات، منها :«حصرم الجنة». كما أصدر مجموعة قصصية بعنوان «أشياء عادية جداً»، ولديه كتاب في الفكر السياسي «حول المجتمع المدني والدولة».
ويحمل أبوسيف درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة برادفورد- إنجلترا، حيث دارت أطروحة الماجستير خاصته حول «التكامل الأوروبي»، وهو يحضر لأطروحة الدكتوراه في جامعة فلورنسا - إيطاليا.