حدث من الأحداث في التاريخ القديم توهج أسطورة في العصر الحديث. فسارع المبدعون والطموحون لركوب نجمها الوهاج إلى مقاصد مختلفة، حيث أثقلوه بالأطنان من الأهداف والغايات. وصاحب الأسطورة براء مما فعلوا! إنها الحكاية - الأسطورة عن سبارتاكوس.
والذي غدت شخصيته، رمزاً وقدوة وشعاراً في الحديث عن البطولة والتضحية.. وعن الإباء ورفض المذلة.. وعن النضال في سبيل الحرية ومناهضة الظلم والاستبداد. وعن العودة إلى الوطن بعد التشرد، وعن التفاعل والتآخي بين الشعوب.
كان مصارعاً من العبيد، عليه أن يمتع الجمهور الروماني بالمبارزة في الحلبة. وما كان أمامه هناك خيار آخر، غير أن يقتل أو يُقتل! أراد أن يدفع السيف عن رقبته ويبعد سيفه عن رقاب الآخرين. أراد أن لا يكون شاة ولا جزاراً. ولمّا صار طلبه مُحالاً، انتفض وقاد أشهر ثورة في التاريخ.
التاريخ والأسطورة
في مدخل مدينة سانداسكي السياحية في جنوب غرب بلغاريا، يستقبل الزوار نصب تذكاري لسبارتاكوس..وفي وادي هذه المدينة، حيث يجري نهر ستورما، كانت تعيش قبيلة مايدي. وهناك وُلد سبارتاكوس وعاش الى أن غزت فيالق روما تلك المنطقة وساقته مع زوجته كغنائم حرب للبيع في سوق الرقيق.
ولأنه وسيم وقوي البنية، يشتريه لينثولوس باتياتوس، مالك مدرسة تدريب المصارعين في كابيوا.. وفي وقت قصير، يبرز سبارتاكوس في فنون القتال ويصبح واحداً من أقوى أربعة مصارعين في المدرسة.
في أحد الأيام، يرتب السيناتور ماركوس كراسوس جولة مصارعة يشارك فيها أقوى أربعة مصارعين. فينازل سبارتاكوس الأفريقي درابا، وينهزم أمامه. ينتظر درابا القرار الأخير بالعفو عنه أو قتله.
في تلك اللحظة، يدرك أن سبارتاكوس لم يواجهه بكل قوته. وعندما يأتي الأمر بالقتل، يهاجم درابا الجنود ويقتل بعضهم قبل أن يصرعوه. تثور دماء سبارتاكوس.. وفي اليوم التالي، يعلن العصيان. فيسانده سبعون مصارعاً ويقاتلون الجنود بأدوات المطبخ، ثم يستولون على الأسلحة والدروع وعربات القتال ويلوذون مع بقية العبيد المحررين بسفوح جبل فيزوفيوس.
إباء وذكاء
ترسل روما وراءهم فرقة بقيادة غايوس كلوديوس الذي يحاصرهم ويتوقع أن يدفعهم الجوع، عاجلاً أو آجلاً، الى الاستسلام. لكن سبارتاكوس يجد مخرجاً..فيهزم الفرقة وينجو.
قائد شهير
تنتشر أخبار هذه المعركة بسرعة ويتدافع العبيد والرعاة من كل حدب وصوب لنصرته، بينهم حبيبته العبدة فارينيا. وبين ليلة وضحاها، يجد سبارتاكوس سبعين ألفاً من العبيد تحت أمرته. فيقسمهم الى مجموعات تتوزع ضمن فرقتين كبيرتين، الأولى بقيادته والثانية بقيادة الفرنسي كريكوس. ثم يقيم المعسكرات ويمضي الشتاء في تدريبهم على القتال. وفي ربيع سنة72 قبل الميلاد يغادر مع جنوده معسكرات الشتاء ويتحرك صوب الشمال للخروج من الأراضي الرومانية.
تتلكأ فرقة كريكوس وتغري غنائم السلب والنهب بعض أفرادها. فيكمن لها فيلقان من الجنود الرومانيين ويوشكان القضاء عليها لو لم يصل سبارتاكوس ويسحقهما. ينتشر الذعر في روما كلها، ويحرّك مجلس الشيوخ ثمانية فيالق من القوات الخاصة بقيادة ماركوس كراسوس للقضاء على سبارتاكوس. ينشر ماركوس ستة فيالق على الحدود الشمالية لقطع الطريق على الثوار.
ويكلّف موميوس بقيادة الفيلقين للمناورة ومهاجمتهم من الخلف. يهزمهما سبارتاكوس.. لكنه يجد صعوبة بالغة في اختراق الجبهة المعترضة في الشمال، فينسحب عائداً الى المنطقة الوسطى ثم الى الجنوب، ويتمركز قرب خليج مسيّنا.
يتفق سبارتاكوس مع القراصنة على نقله مع رجاله الى جزيرة صقلية، لكن كراسوس يغريهم بالمال، فيخونونه ويتركونه في وضع صعب لا يستطيع أن يتقدم فيه شمالاً ولا جنوباً.
في ذلك الوقت يعود القائد بومبي من اسبانيا منتصراً، ويقود جيشه لدعم كراسوس. ولأجل المكسب السياسي في مجلس الشيوخ، يتسابق الاثنان الى محاصرة الثوار وقطع الإمدادات عنهم. يدرك سبارتاكوس أنه سيخوض معركة غير متكافئة.
وليس أمامه غير الموت أو الاستلام. يحث الثوار على القتال ويفضّل الموت حراً في ساحة المعركة على الموت عبداً في حلبة المصارعين. يخسر المعركة الأخيرة ويسوقه الرومان مع ما بقي حياً من الثوار أسيراً- يذكر بعض المؤرخين أنه مات في أرض المعركة-.
أنا سبارتاكوس
جملة خبرية بسيطة" أنا سبارتاكوس" غدت قولاً مأثوراً تتداوله شعوب شتى، وتصدرت العنوانين في كثير من الأعمال الأدبية والفنية والصحافية للدلالة على الإيثار والمؤازرة حتى الموت.
..والسبب!؟
بعد هزيمته وأسره مع ستة آلاف من الثوار، أراد قادة بعض الفيالق الرومانية أن يجعلوا سبارتاكوس عبرة. لكنهم لم يعرفوا شخصيته. لذلك أوقفوا الأسرى في صفوف، وسأل أحدهم: من هو سبارتاكوس؟
أجاب سبارتاكوس بشموخ: أنا سبارتاكوس. أدرك الثوار أنهم سيعذبونه وينكّلون به، واذا برجل ثانٍ يصيح من الخلف: أنا سبارتاكوس! ثم ثالث ورابع ثم تعاقبت الأصوات: أنا سبارتاكوس.. أنا سبارتاكوس! ستة آلاف عبد صرخوا: أنا سبارتاكوس! وبهذا حوّلوا الهزيمة الى انتصار! أمر القادة بقتلهم صلباً. ماتوا كلهم مصلوبين، ماتوا كلهم رجلاً واحداً: أنا سبارتاكوس!
العبيد الأحرار
سماها الرومان ثورة العبيد.. وسماها العالم ثورة الأحرار. واذا توخينا الدقة، لا يمكن القول انها ثورة. فهي لم تحمل هدفاً سياسياً أو إصلاحياً أو اقتصادياً، ولم تقم ضد النظام في روما. في الحقيقة لم يرد العبيد شيئاً من الدولة الرومانية كلها، كل ما أرادوه هو الهروب واجتياز حدودها الى الدول المجاورة.
يضاف الى ذلك، إنهم لم يكونوا مواطنين رومانيين، وإنما من بلاد مختلفة (فرنسا وهولندا واسبانيا والبرتغال ودول البلقان وشمال افريقيا). ولم يكونوا عبيداً، وإنما سادة كرام عاشوا أحراراً في ديارهم الى أن أغارت عليهم الكتائب الرومانية وساقتهم عبيداً.
شخصية موقرة
أدت وقائع وتفاصيل حياة سبارتاكوس، الى توقير شخصيته، ولا سيما في فرنسا والمانيا وبلغاريا، والاستشهاد بها كرمز وقدوة في الحديث عن البطولة والتضحية، وعن الإباء ورفض المذلة..
وعن النضال في سبيل الحرية ومناهضة الظلم والاستبداد. وعن العودة الى الوطن بعد التشرد وعن التفاعل والتآخي بين الشعوب- تراصف العبيد من قبائل وشعوب متنوعة كالإخوة وراء سبارتاكوس-. لهذا أطلقوا اسمه في نيودلهي، الهند على مؤسسة مستقلة "منتدى سبارتاكوس" الذي يدعو الى الحوار والمناظرة والنقاش بين شعوب العالم في مجالات الثقافة والإدارة والعلوم الاجتماعية.
كما حمّل بعض رجال السياسة والأدباء هذه الشخصية ما لا تطيق. إذ نفخ فيها الماركسيون روحاً ماركسية.. والليبراليون روحاً ليبرالية.. والقوميون روحاً قومية. ومثلهم فعل الوحدويون والمتطرفون والتقليديون والمثاليون والإصلاحيون.. ونتج عن هذا تشكيلة تنوع درامي مذهل.
في السينما والتلفزيون
1960 فيلم "سبارتاكوس". من إخراج ستانلي كوبريك. بطولة كيرك دوغلاس. فاز بأربع جوائز أوسكار.
1964 "سبارتاكوس والمصارعون". إنتاج إيطالي وفرنسي وإسباني. من إخراج نيك نوسترو.
2004 الفيلم التلفزيوني "سبارتاكوس"، الذي عرضه تلفزيون" يو أس أي نيتوورك":(USA Network ).
في الرسم والنحت
1830 تمثال من الرخام للفنان دينيس فوياتيه. موجود في متحف اللوفر في باريس.
1884 لوحة "أنا سبارتاكوس" الشهيرة للفنان الفلبيني جوان لونا. وهي محفوظة في المتحف الوطني في مانيلا.
2010 "سبارتاكوس" للرسام بول كارسليك وهي أحدث اللوحات وعرضت في مركز ماريليبون في لندن.
في الباليه
1958 " سبارتاك". وهي من الروائع الخالدة للموسيقي الأرمني آرام خاشاتوريان.قدمتها "فرقة الباليه والأوبرا الوطنية الأرمنية" أكثر من 200 مرة في معظم عواصم العالم.
1968 "سبارتاكوس" للموسيقي الهنغاري لازلو سيرجي. وهي من الروائع أيضاً. وبعد تسع سنوات وضع سيرجي ألحان الباليه الاسترالية "سبارتاكوس".