ديوان جمع أشعار أبي العلاء المعري وفكره. التزم فيها (رهين المحبسين)، بالعديد من الخصائص والسمات، على مشقتها وعجائبيتها معا. إذ تعبر فى النهاية عن قامة شعرية نبتت على الأرض العربية، منذ قرون، ومع ذلك بقيت حاضرة مؤثرة حتى يومنا هذا. وفي العموم، تشكل (اللزوميات)، كما يراها نقاد وفلاسفة كثر، فوح رحيق «رهين المحبسين».

معنى

يتمثل معنى لزم في «لسان العرب» بـ: اللُّزومُ معروف، والفِعل لَزِمَ يَلْزَمُ، والفاعل لازمٌ والمفعول به ملزومٌ، ورجل لُزَمَةٌ يَلْزَم الشيء فلا يفارِقه. . أما لزم في «مختار الصحاح» ل ز م : لَزِمْتُ الشيء بالكسر لُزُوما ولِزَامَاً ولَزِمْتُ به واَزَمْتُه واللِّزَام المُلازِمُ، وألْزَمَه الشيء فالْتَزَمَهُ والالْتِزَامُ أيضا الاعتناق. ولَزِمَ في «المعجم الوسيط» لُزُوماً: ثبت ودام: نشأ عنه وحصل منه.

من هو؟

أبو العلاء المعري هو أحمد بن عبدالله بن سليمان بن محمد التنوخي (تنوخ من اليمن).. وكني بالمعري (نسبة إلى معرة النعمان) في سوريا. وهو مولود عام 463 هجرية وتوفى في 549 هجرية. وهو الشاعر الفيلسوف، عاشق الحياة والزاهد فيها، فقد بصره صغيرا، وتولاه والده ثم أهل جلدته، وهم من العلماء ورجال العلم والدين.

وقرر أن يتعرف على بلاده والبلاد المجاورة، فسافر إلى أنطاكية واللاذقية وطرابلس. ودرس على يد رجال العلم فيها. ووصل بغداد في عمر الـ36 سنة، وأقام فيها حتى بلغ الاربعين. وطوال تلك الفترة لم تمنعه علة فقد البصر من ممارسة حياته وطلب العلم وقرض الشعر.

حياته

بدت حياة صاحب (اللزوميات)، حلقات من الصراع والمعارك، ولم يمنعه ذلك من الاطلاع على العلوم المتاحة له في عصره، وخصوصا علوم الهند واليونان. وهو بالتالي ما انعكس على رؤيته وتناوله الشعري. كما يذكر عنه أنه لم يكتب في المديح، وهو من أهم فروع الكتابة الشعرية في زمانه..

حيث كان يعد مصدرا للاسترزاق عند البعض. فلما ترك بغداد وهو في الأربعين من عمره، ليواصل حياته في بلدته، عاش زهد الحياة واقعيا، واكتفى بالتأمل فيما عرف وما يعرفه من محبيه وتلامذته، وهو القائل عن نفسه «أنا حبيس الثلاثة: العمى والمنزل وروحي في جسدي».

مرحلة جديدة فى حياته

عاد المعري إلى بلدته (المعرة)، ليبدأ مرحلة جديدة في حياته، مع أفكاره وشعره أيضا. وأنتج العديد من الأعمال الشعرية، منها: اللزوميات - سقط الزند - رسالة الغفران - رسالة الملائكة.. وغيرها. وبدت خلاصة تأملاته في مجمل أعماله، في الكون المادي وما وراء الطبيعة أو ما وراء الحياة، ثم كانت له صولاته وجولاته في نقد الفرد والمجتمع.

كما انشغل فيلسوف المعرة بمواضيع كلية إنسانية، لها قيمتها الفكرية الإبداعية حتى الآن. وأهم هذه المواضيع: هو جوهر الإنسان، الإنسان من حيث وجوده ومصيره وقيمه وأخلاقه.

رؤى فلسفية

لعل (اللزوميات) أكثر أعمال المعري تعبيرا عن رؤية الإنسان في فكره وتأملاته، وتلك الرؤية الفلسفية على شكل شذرات كطبيعة الشعر، وليست فلسفة ممنهجة نثرية كما عند كل الفلاسفة.

والتزم فيها المعري أن تكون القافية على حرفين، وأن تشمل أشعاره كل حروف لغة الضاد، وما يلحقها من الفتح والضم والكسر والسكون، إذ كان لكل حرف باستثناء الألف، أربعة فصول: فللباء المضمومة فصل، وللمفتوحة فصل، وللمسكورة فصل آخر، وكذلك للباء الساكنة.. وهكذا.

وفي هذا دلالة على مقدرة لغوية وعروضية، بالاضافة إلى التناول الفلسفي.

وأكثر لزومياته اللفظ فيها متين، كما أن الأسلوب فخم يعجّ بالمصطلحات العروضيّة والصرفية والفقهيّة والطبيّة والفلسفية، ويحتوي الديوان الكثير من الأمثال السائرة والحكم الماهرة.

ويلاحظ القارئ، أنه مع تنوع الالتزام في القوافي، ألزم نفسه برواية الشعر من بابه الضيق، كأن يستخدم الألفاظ والمفردات نادرة الاستخدام. ثم تناول الموضوعات الشائكة، مثل: الكلام عن الخالق والرؤساء أو الحكام. وعن الشعوب بعامة، وعن الطبيعة البشرية أو عن الإنسان.

في مقدمة الكتاب

لعل أول ما يلفت انتباه القارئ، ومع مقدمة الكتاب، تلك اللغة والأسلوب العربي الخاص للشاعر، إذ كان المعري من المتبحرين في اللغة والمتفقهين فيها.. وكذا من العارفين لأسرارها. لا بل إنه من أبرز الضالعين في النحو والصرف، ويعتبره البعض من أذكى وأمهر النحاة في العربية، ويعتبرونه من «أصحاب العروض».. وهي فئة قليلة ينالها بعض العارفين بحنكة في النحو والصرف.

موضوعات تناولها

طبيعة الإنسان:

يقف أبو العلاء موقفاً ناقداً لوجود الإنسان، لأن الإنسان سيئ بطبعه، كما يرى، بل هو ذئب وشرير، ثم تأتي الحياة لتخفف من ذئبيته وشره:

«خسست يا أمنا الدنيا فأف لنا

بنو الخسيسة أوباش أخساء»

ويعني أبو العلاء المعري في هذا البيت وما يحمله من رمزيات، أن كل أبناء الدنيا أوباش وأخساء، وهو حكم أخلاقي سلبي، كما يجد أن الإنسان تافه وحقير.. بل أضاف في موضع آخر أن الإنسان كائن غبي. ونتبين من أسلوبه ووصفه في الخصوص، أنه يبدو الغباء الإنساني في علاقة الإنسان بالحياة وحبه لها.. وتعلقه بالزائل، بل إن الغباء الإنساني يظهر أكثر في تجمع الأفراد معا:

«تفرقوا كي يقل شركم

فإنما الناس كلهم وسخ».

وهنا نتبين أنه نال الناس تلك الصفة «وسخ» من المعري، لأسباب لا يغفلها، فإنه أكثر ما يتجلى في أخلاق الناس وبخاصة الرياء:

«أرائيك فليغفر الله زلتي

بذاك ودين العالمين رياء».

وفي جملة أبيات تصب في هذا المعنى، نستنتج أن المعري يرى أن الرياء، رسخ كهواء وفكر ومعتقد ومتنفس حقيقي للخلق أجمعين، فالبشر بهذا المعنى كائنات كذابة.

عن الرياء والنفاق:

وفي موضع آخر، يشير المعري إلى أن الرياء والنفاق في الناس، قضايا وسمات تجعلهم يميلون إلى ما أطلق عليه «عشرة الرؤساء»، ويقول:

يا ملوك البلاد فزتمُ بنسء العمر

ما لكم لا ترون طُرقَ المعالي

والجور شأنكم في النَّساء

قد يزور الهيجاء زير نساء.

عن الموت

بدت فكرة الموت عند المعري، الطريق إلى زهد في الحياة المعاشة، والسبب عنده هو أن الانسان محتقر، فما الإنسان إلا هذا التراب الذي يعود إلى التراب:

فمن تراب إلى ترابٍ

ومن سفاة إلى سفاة.

كما يرى في الموت سخرية من الحياة، بل صورة من صور الحياة، وبالتالي فإن الحياة عنده بلا معنى، وبالتالي فلا معنى لأي نزوع نحو السعادة الدنيوية:

إن التوابيت أجداث مكررة

فجنب القوم سجناً في التوابيت

وهناك من يفسر هذا البيت ويشرحه، بأن الإنسان يقبر مرتين، مرة في التابوت ومرة في القبر. وهذا بينما يرى البعض الآخر، أن التابوت في البيت هو الجسد، والقبر هو القبر المعروف. وان الإنسان في الأصل قائم في القبر منذ ولادته.. فالجسد قبر النفس. وهو القائل أيضا:

أراني في الثلاثة من سجوني

فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري ولزوم بيتي

وكون النفس في الجسد الخبيث

وتتعد الموضوعات في (لزوميات) المعري، حتى ينتهي كما يبدو، إلى أن حقائق وسمات طبيعة الناس وأخلاقهم والموت، كل ذلك يجعله زاهداً بالخلق كلهم:

وزهدي بالخلق معرفتي بهم

وعلمي بأن العالمين هباء

وجهات نظر

كما اختلف الباحثون في شعر أبي العلا المعري. وخصوصا بالنظر إلى اللزوميات.

ومن بين هؤلاء من نظر إلى شعره من خلال الصور الفنية والإعراب، وقبلهما العاطفة الشعرية، ثم بالنظر إلى قاموسه اللغوي واستخدام مفرداته الرشيقة والعبارة الموحية. إذ إنه في هذا الصدد، ركب الصعب منها. وعند البعض الآخر، الفكر والحكمة والرأي، وتحديدا بالنسبة للغريب منها في المعنى، إذ يعد اغترابا عن فن الشعر في جوهره.. وغريبا عن شعر العرب. وهذا بينما يرى البعض الآخر، فضل هذا التناول الفكري وتلك المعاني الجديدة والآراء المثيرة للتفكير، بأنها كلها سبب للتأمل والتفكر والاطلاع. وذلك في مقابل التقليل من قيمة العاطفة وحديث النفس وهوى القلوب.