من الصعب أن يكتب الناقد عن رواية «ميرامار» للروائي النوبليّ نجيب محفوظ، دون العودة إلى ما كتبه النقّاد السابقون، ثمّ ما الجديد الذي يمكن أن يضيفه عمّا دبّجته أقلام هؤلاء الأفذاذ عن هذه الرواية الإشكالية في أطروحتها الفكرية وفي أبعادها الدلالية، علماً أن نجيب محفوظ كان قد نشرها عام 1967 قبل الحرب وبعد ثلاثية القاهرة الشهيرة، عقب تبلور مواقفه الناقدة للثورة ولمفرزاتها الاجتماعية بشكل حاسم مع: «اللصّ والكلاب» و«ثرثرة فوق النيل».
في هذه الرواية، يمضي بنا محفوظ نحو الإسكندرية، المدينة البحرية المنفتحة على الثقافة الأوروبية عبر الجاليات العديدة التي استوطنتها منذ زمان بعيد وبخاصة الجالية اليونانية، وقد ظلّ هذا الإرث الثقافي مستمراً حتّى بعد قيام الثورة ورحيل الجاليات، وتمثّل رمزياً في بنسيون «ميرامار».
«زهرة»
السؤال الإشكالي الأساسي الأوّلي يتّجه نحو «زهرة» الشخصية المحورية والفتاة الريفية التي هربت من أسرتها، لأن أهلها أرادوا تزويجها من رجل عجوز لأجل ماله، حيث تأتي المصادفة بها إلى البنسيون لتخدم مجموعة من الرجال ينتمون إلى جيلين مختلفين ومشارب سياسية واجتماعية مختلفة..
وهي زهرة تضوع أنوثة، واثقة من نفسها وتتطلّع لتغيير حياتها التي فرضت عليها بسبب جهل مجتمعها الريفي وعاداته وتقاليده البالية، وفي المقابل، هناك مدام ماريانا اليونانية الأصول، وقد أفل زمانها مثلما أفل شبابها. ولكنها ما زالت تدير بنسيونها الذي كانت له أيام عزّ عاشها بعض الشخصيات من مثل: عامر وجدي وطلبة مرزوق.
بناء محكم
تنهض الرواية بنائياً على أربعة رواة يروون حكاياتهم بضمير المتكلّم الذي يعبّر بالضرورة عن وجهة نظر كلّ منهم وفق رؤيته الفكرية، وهم في الوقت نفسه، بعض شخصياتها المتعايشة في المكان والمتصارعة في الوقت نفسه، غير أن خيوط الرواة الأربعة تتشابك مع «زهرة»، بدءاً من سردية عامر وجدي.
عامر وجدي الصحافي الثمانيني المتقاعد الذي عاش أمجاد الصحافة الوطنية وثورة الـ 19 بقيادة سعد زغلول، وقصد الإسكندرية الآن باعتبارها مسقط رأسه ولا عائلة لديه ولا أقرباء، لجأ إلى البنسيون بعد عشرين عاماً من إقامته الأخيرة فيه، فأجواء البنسيون شبه عائلية فضلاً عن صداقته القديمة لماريانا وبإمكانهما استعادة الذكريات المشتركة.
أما طلبة مرزوق فهو ملاّك موضوع تحت الحراسة باعتباره أحد عتاة الملكية، وقد صادرت الثورة أمواله ووزعتها على الفلاحين، نموذج لذلك الزمن الذي ظلّ مخلصاً له، وهو بدوره رجل عجوز كانت له ذكريات حميمة مع ماريانا بعد موت زوجها الضابط الإنجليزي في ثورة الـ 19، وبذلك فهما ينتميان لذلك الزمن وقد بقيا فيه يرقبان ما يجري ويتحسّران على أيّام الملكية والجاليات.
ساخر ومعدم
حسني علاّم، أحد أعيان الريف لديه مئة فدّان من الأرض ويخاف أن تصادرها الثورة كما فعلت مع طلبة مرزوق، وهو شاب ساخر عابث وماجن لا تستهويه الثورة، وسيبدو على الدوام حائراً وقلقاً، بين أن يتقدّم خطوة إلى الأمام عبر مشروع اقتصاديّ جاء الإسكندرية لأجله، أو يبقى منسياً في البنسيون مع ماريانا وزمانها باحثاً عن متعته الخاصة، ويمكن اعتباره نموذجاً للطبقة الوسطى الحائرة من الملاّكين.
بينما سرحان البحيري الشاب الجامعي والذي يمكن اعتباره شخصية رئيسة تعيش مأزقها التاريخي، فهو من جهة ريفي فقير لا يمتلك سوى أربعة فدادين تعيل أسرته، وكان أيّام الدراسة ينتمي إلى حزب الوفد، لكنه الآن انعطف نحو الثورة والتحق في تنظيم الاتحاد الاشتراكي باحثاً عمّا ينقصه من وجاهة اجتماعية، ومن مال يعزز هذه الوجاهة، وهو بطبيعة الحال طموح مشروع، ولكن كيف الوصول إليه في هذه المرحلة التي توقّفت فيها الأعمال وبات كلّ شيء في يد الدولة؟
هكذا نجده على الدوام موزّعاً بين ماضيه الريفي بحبّه لزهرة مستجيباً لمشاعره نحوها وعواطفه المتّقدة نحو امتلاك جسدها، وبين طموحاته المتأهّبة للارتقاء وظيفياً واجتماعيا وخطبته للمعلمة عليّة مستجيباً لصوت العقل، وهذا التشتت جعل منه شخصية انتهازية واضحة المعالم، وسرعان ما يتواطأ مع بعض الفاسدين لسرقة المال العام، وينتحر بعد اكتشاف أمره، في إشارة ذكية من محفوظ إلى المستقبل الغامض لمصر وقد تبوّأ أمثال سرحان البحيري قيادتها.
أما منصور باهي الشاب الإعلامي، فهو كما يبدو ينتمي لتنظيم ثوري ماركسي معاد للثورة، ويقف في ذات المفصل التاريخي لشخصيتي حسني علاّم وسرحان البحيري في حيرة كبيرة من أمره،.
فمن جهة يقف أخوه الكبير الضابط في الداخلية راصداً تحرّكاته بدقّة شديدة مخافة أن يعاود الاتصال برفاقه بعدما تمكّن من إخراجه من المعتقل، ومن جهة ثانية رفاقه المعتقلون بسبب آرائهم المعارضة لسياسات النظام.. صراع كبير. ولكنه في النهاية سيحسم أمره بالرضوخ للواقع الجديد منكسراً ومهزوماً كثوريّ وكمثقف.
مصر الجديدة
«وأخيراً زهرة» الريفية الشابة المحبّة والمحبوبة، وهي الوحيدة التي كانت تستعد للعبور إلى الزمن الجديد، حاملة حقيبتها المدرسية مصرّة على وداع الأمّية، وزهرة الأنوثة الجديدة الخارجة للتوّ من قمقم العادات والتقاليد تتطلّع لإثبات وجودها. زهرة «التي قد تكون رمزاً لمصر الجديدة كما تخيّلها محفوظ في حينه...»: مصر الشعب البسيط الصادق والمكافح لأجل تقدّمها.
الفيلم
من المفيد في صدد إنتاج الرواية فيلماً سينمائياً، أن نشير أوّلاً إلى مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة لجمهور السينما، فهو يحفّز على قراءتها من جهة ويعزز قيمها وأفكارها في الوسط الشعبي، وبذلك ساعدت السينما في موضعة نجيب محفوظ مكانة عالية وحظي بجماهيرية كبيرة قبل حصوله على نوبل..
وقد تمّ إنتاج فيلم ميرامار عام 1969 من قبل المؤسسة العامّة للسينما، بإخراج كمال الشيخ وسيناريو وحوار ممدوح الليثي، وتمثيل: شادية بدور زهرة، يوسف شعبان بدور سرحان البحيري، عماد حمدي بدور عامر وجدي، يوسف وهبي بدور طلبة مرزوق، أبو بكر عزّت بدور حسني علاّم، عبد الرحمن علي/ منصور باهي، عصمت رأفت بدور ماريانا. إضافة إلى: عبد المنعم إبراهيم، نادية الجندي، سهير رمزي.. وآخرين.
إذ التقوا جميعاً في البنسيون وأدوا أدوار شخصيات الرواية بحرفية وبراعة أغنت الرواية بما اجترحه المخرج من مشاهد درامية وصراعات عبّرت عن تلك المرحلة الانتقالية سلباً وإيجاباً، وكان لا بدّ من ولادة الجديد بعد هذا المخاض العسير الذي جسّدته الأحداث..
فجذبت المشاهد ودفعت به لمتابعة مصائر الشخصيات، ليترسّخ بنسيون «ميرامار» في الذاكرة خالداً كمكان عاشت فيه هذه الشخصيات، حتّى إنّ زوّار الإسكندرية اليوم من أدباء ونقّاد وفنانين يدفعهم الفضول للبحث عنه والتعرّف إليه، واستعادة تلك الأحداث التي أبدعها نجيب محفوظ وكمال الشيخ.
Ⅶرواية إشكالية في أطروحتها الفكرية وفي أبعادها الدلالية
Ⅶزهرة فتاة جميلة.. واثقة من نفسها وتتطلّع لتغيير حياتها
Ⅶ«بنسيون» ميرامار أوّل مكان يبحث عنه زائرو الإسكندرية
Ⅶ«زهرة» قد تكون رمزاً لمصر الجديدة كما تخيّلها محفوظ في حينه