إبراهيم أصلان أحد أبرز كتّاب جيل الستينيات في مصر، رغم أنّه مقلّ في أعماله، وقد جاءت شهرته الكبيرة من روايته الأولى «مالك الحزين» التي نحن بصدد قراءتها.

وقد استغرق في كتابتها نحو 9 سنوات ليقدّم لقارئه وللوسط الإبداعي المزدحم بالروائيين والروائيات درة إبداعية فريدة في بنيتها وأطروحتها التي تكاثفت حول حيّ «الكيت كات» كمشترك مكاني وبؤرة رمزية سيعبر بها الزمان نحو ثقب أسود.

فالقاهرة المدينة المتحركة تتقدّم باستمرار نحو الأحياء المهمّشة ساعية لتفكيك بنيتها القديمة وإعادة البناء وفق مقتضيات عمرانها، وسيعمل على التنفيذ تجّار محتالون استفادوا من زمن الانفتاح وراحوا يتلاعبون بمصائر الشعب بالاحتيال أو الإفساد بترويج المخدرات.

وفي هذه اللحظة المفصلية والتاريخية يتابع الروائي شخصياته الفلقة والأقرب إلى الفقر، بالرغم من أنها جميعاً تنتمي إلى الطبقة المتوسطة التي كادت تتلاشى في هذه المرحلة الصعبة من تغوّل السلطة وتمكّنها من هذه الطبقة تحديداً لتمضي بها حيث تشاء.

أحداث

في هذه العجالة يمكننا الإشارة إلى ثلاثة أحداث مهمّة، بل مؤسسة للرواية، وأوّلها نزول المطر في مستهل الرواية وفي ختامها كفعل رمزي تطهّري باعث على الخير والأمل في المستقبل، وثانيها موت العم مجاهد بائع الفول الصامت الذي ينتمي للجيل الأسبق.

والذي شغل موته شخوص الرواية وعلى مدار أحداثها، ربّما كإشارة إلى تلاشي هذا الجيل الطيّب أو لتبيان مدى تضامن أهل الحي وتكاتفهم في الملمّات، بالرغم مما استجد من نزعة الخلاص الفردي والصراع لأجل الحياة.

أما المستوى الثالث الذي ينبغي التوقّف عنده فهو الإنذار بإخلاء المقهى لأجل إقامة بناية مكانه، وهو المكان الوحيد المتبقّي لأهل الحيّ يتسامرون فيه ويكشفون من خلال أحاديثهم عما يجري فيه من أحداث ويقدّمون أنفسهم أو يكشفون عن شخصيات الرواية الكثيرة سواء بالعودة إلى ماضيها أو بما صادفوه من أحداث، حيث يصبح الكلّ سارداً للحكاية التي دامت أحداثها فعلياً يومين اثنين من لحظة وفاة العم مجاهد وحتّى إقامة مجلس العزاء له.

في التسمية

مالك الحزين تستقي اسمها من ذلك الطير الجميل الذي يعيش على الأنهار طالما هي موجودة، وإن غارت أو جفّت دخل مرحلة الحزن النبيل وسيعبّر عنه بتغريدات حزينة كمن أصيب بفاجعة، ونعتقد في هذا الصدد أن التسمية الرمزية تحيل إلى الشعب المصري المُعبّر عنه بمجتمع الكيت كات المعرّض للانهيار بالرغم مما يتّصف به من طيبة وجمال ونبل.

البنية الدائرية

مزج الروائيّ ما بين التقنية السردية الشهرزادية والمونتاج السينمائي، في ما يمكن تسميته بالحكاية الإطارية وما يتفرّع عنها من أطر حكائية يتعدد فيها الرواة بتعدد الشخصيات الكثيرة التي تتبعّها الروائي بعناية في روايته.

وقد سمح المونتاج السينمائي بتقسيم النصّ إلى وحدات سردية تقصر إلى بضعة أسطر أو تطول لصفحات، فضلاً عن المشهديات البصرية التي أغنت الكادر بمزيد من التفاصيل الموصوفة بأسلوبية التجاور، شأنها في ذلك شأن تجاور الشخصيات واستقلال كلّ منها عن الأخرى.

فضاء روائي

وبلغ عدد الوحدات 21 وحدة اكتمل من خلالها الفضاء الروائي بأمكنته وناسه وأحداثه، حيث تتألّف كلّ وحدة من عدد من المشاهد لها عناوينها الخاصّة أو دونها، ويمكن الاصطلاح على هذا النمط من الصياغة ببنية التجاور ما بعد الحداثية، حيث يستقلّّ كلّ مشهد عن الآخر زمانياً.

ولكنها بمجموعها سوف تضيء جانباً من الحدث والكشف عما نجهله من حياة الشخصية أو جانب من الصراع الذي تعيشه ذاتياً، كما في الوحدة رقم 4 التي ضمّت عدداً من المشاهد بعضها وصفي يضيء ثقافة الشخصية، يوسف النجّار مثلاً، الذي تستقر الكاميرا في غرفته طويلاً: «كانت جدران الحجرة مزدحمة بصفوف الكتب على أرفف الخشب المحمولة من أطرافها بالحبال المجدولة.

كما كانت هناك لوحتان كبيرتان على جانبي النافذة، إحداهما نسخة من الموناليزا التي فردت على الجدار وثبتت من أعلاها بمشبك معدني صغير، إما الأخرى.

فقد عُلّقت في الجانب الأيمن فوق نهاية الكنبة التي يجلس عليها. كانت مرسومة بالحبر الشيني على ورق أبيض مال لونه إلى الصفار وموضوعة داخل إطار عريض دون زجاج، انطفأ طلاؤه الذهبي وصار في لون النحاس القديم المطروق، تمثّل رجلاً يركب بغلة عجوزاً بدرع على الظهر ورمح طويل كالعصا.

وكان التابع قريباً من الأرض على ظهر حماره اللاهي يرفع رأسه المدور ويتطلع إلى فارسه العالي وهو صامت. وكانت الأرضية مجموعة من الخطوط التي استكملها توقيع بيكاسو». وبالتالي سيعمل الوصف ليس على إضاءة ثقافة يوسف النجّار فقط، وإنما سيمنح قارئة إضاءة فنية بشكل ساخر.

مصائر الحيّ

وسيجاور هذا المشهد مشهد آخر عن الأسطى قدري الإنجليزي الذي يمكن اعتباره شخصية فريدة أيضاً، فقد كان يعمل مترجماً لدى الإنجليز إبان مرحلة الاستعمار.

وبعد رحيلهم ظلّ متواصلاً مع الثقافة الإنجليزية عبر قراءاته المتواصلة لأعمال شكسبير وتمثّل بعض أحداث المسرحيات الشهيرة من مثل عطيل وهاملت، لكنه الآن فقير ويعيش في هذا الحيّ الفقير شأنه شأن الشخصيات القلقة الأخرى من مثل الأمير عوض الله المواظب على الجلوس في المقهى الذي كان لأسرته، لكنه الآن بيد المعلّم عطية الذي باعه للمعلّم صبحي تاجر الطيور الذي انتقل للتجارة وبات شخصية فاعلة في الحيّ.

إضاءة

إبراهيم أصلان (1935 - 2012) روائي مصري وأحد أبرز كتاب جيل الستينيات، لاقت أعماله القصصية ترحيباً كبيراً عندما نشرت في أواخر الستينيات وكان أولها مجموعة «بحيرة المساء» .

وتوالت الأعمال بعد ذلك إلا أنها كانت شديدة الندرة، التحق في أوائل التسعينيات كرئيس للقسم الأدبي بجريدة الحياة اللندنية إلى جانب رئاسته لتحرير إحدى السلاسل الأدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة إلا أنه استقال منها إثر ضجة رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري حيدر حيدر، من أعماله «يوسف والرداء»، و«وردية ليل»، و«عصافير النيل»، و«حجرتان وصالة»، «خلوة الغلبان»، وغيرها.

1991

فيلم «الكيت كات» مأخوذ عن رواية «مالك الحزين»، وهو من إخراج داوود عبد السيد عام 1991، وثمّة فارق جليّ بين كتابة الروائيّ وكتابة المخرج البصرية الذي ركّز على الكوميديا من خلال شخصية الشيخ حسني الذي مثّله الفنان محمود عبد العزيز مركّزاً على مغامراته المسلية وعلى جاذبية أدائه وما اجترحه من مواقف درامية وكوميدية.

لحظات سينمائية:

توجهت الكاميرا نحو الشخصيات في اللحظة الزمنية ذاتها على نحو بانورامي دائري، فالبرتقالات التي وقعت من حضن المعلّم عطية ظلّت في الأرض ولم يلتقطها بعد أحد، والتجهيز لمجلس العزاء ظلّ قائماً والانتقال من نقطة إلى أخرى لا يعني بالضرورة مضيّ الزمن، لأن زمن الأحداث الفعلي يتكاثف في نحو يومين فقط.

ولذلك فقد ساعدت بنية التجاور على الانتقال من شخصية لأخرى في اللحظة الزمنية المعاشة ذاتها، مع السماح لكلّ شخصية

أن تسترجع جانباً من حياتها أو من حيوات الشخصيات السابقة، وهكذا تمضي الأحداث وتتفاعل وتتفاقم في هذا المجتمع الخاضع لمشيئات كبرى ولا يستطيع مقاومتها، وسيبدو أنه منكسر أمام توحّشها.