توفيق الحكيم أديب مصري أشهر من أن يعرّف، فقد قدّم للمكتبة العربية عشرات المؤلّفات من قصص وروايات ومسرحيات، واشتهر عالمياً وترجمت غالبية أعماله إلى الفرنسية والإنجليزية، وهو مؤلّف الرواية المشهورة «عصفور من الشرق» التي كتبها عام 1938.

وتحكي قصّة ذلك الشاب الذي أرغم على دراسة القانون في بلده، ثم أوفد إلى باريس لنيل شهادة الدكتوراه، لكنه بعدما تحرر من الوصاية تجاهل أمر دراسة القانون وذهب في اتجاه الآداب والمسرح والفنون، سيرة تنطيق على مؤلّفنا بما يمتلكه من حساسية إبداعية دفعت به نحو الكتابة الروائية والمسرحية، وبخاصة روايته «يوميات نائب في الأرياف» التي كتبت في الثلاثينيات من القرن العشرين بأسلوب ساخر يذكّر بغوغول وتشيخوف وديكنز في توظيف السخرية لنقد الواقع المزري.

بنية اليوميات

جاءت الرواية على شكل يوميات دوّنها الحكيم ما بين11 أكتوبر ولغاية 23 منه، وكلّ تدوينة كانت بمثابة فصل شائق ارتبطت جميعاً بجريمة غامضة حدثت في إحدى قرى مصر، ولمّا كانت وظيفة مدوّن اليوميات وسارد الحكاية وكيل نيابة أو نائباً في المحكمة، فإنه سيتابع هذه القضية بحبكة بوليسية قوية، ومن خلالها يبدأ بالكشف عن واقع الريف المصري في ذلك الزمان البعيد، وذلك ضمن محورين أساسيين«أوّلهما اجتماعي يتمثّل في مجتمع القرية الذي مازالت تتحكّم فيه كثير من العادات المتخلّفة وبخاصة عادة الأخذ بالثأر، ولذلك تجده متكتماً حول القضية ولا يبوح بأسراره بغرض أخذ الثأر من الجاني أو ممن حوله من أقرباء، وثانيهما حكومي يتمثّل في سلكي القضاء والشرطة الفاسدين ومختلف الدوائر المرتبطة من مثل المؤسسات الصحّية المؤتمنة على حياة الناس.

الواقعية الساخرة

وربّما كان توفيق الحكيم أوّل من دشّن اتّجاه الواقعية النقدية في الرواية العربية بأسلوبه الساخر، الناهض على المفارقة بسرده الشائق وبلاغته التي لا يمتلك المرء سوى أن يعجب بها بالرغم من مرور قرابة قرن على كتابتها، وتلك هي مزية أدب العمالقة الكبار في الأدب بعامة وفي الأدب الروائي بخاصة، حيث تتموضع أعمالهم في سجل الخالدين وتبقى حية في الذاكرة أبداً، وبذلك فإننا نعتقد أنه لم يخطئ أحد من نقّاده الذين موضعوا أدب الحكيم إلى جانب ديكنز وتشيخوف وغيرهما ممن أغنوا الثقافة الإنسانية.

كوز الذرة

«يوميات نائب في الأرياف» رواية تراجيدية بالمعنى الدرامي، لمقاربتها حياة ومصائر مجتمع بأكمله، وكأنّه محكوم بقدر غاشم أمر بأن يبقى جاهلاً تتفشّى فيه أمراض الأمية والفقر وبؤس العلاقة مع الحكومة، التي لا يعنيها أمر تقدّمه أو أي شيء سوى الانتخابات وفوز مرشحيها بأية وسيلة حتّى لو تطلّب الأمر مخالفة القانون على أيدي ممثليه وحماته من مثل المأمور ورجاله، بكلّ ما عرفوا به من ظلم التمسناه على سبيل المثال في روايات وأفلام عديدة عكست هذه العلاقة غير الإنسانية بين السلطة ورعيتها، وربّما نموذجها رواية وفيلم «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف شاهين، حيث تبدو هذه الإشكالية بين الحكومات والريف أزلية لا يعرف أحد متى بدايتها وأين منتهاها، وكأن الظلم قدر كتب على هذا الفلاح المغلوب على أمره، نراه في الرواية واقفاً أمام بيروقراطية وفساد العدالة، وليس بإمكانه الدفاع عن نفسه، ومثاله المفارق الرجل الذي سرق كوزاً من الذرة فحكم عليه بشهر في السجن، وأمثال هذا النموذج كثيرة استعرضها الروائيّ كي يعزز مقاصده بما يعني أن القانون صارم كحدّ السيف على الفقراء، ولكنه لطيف مع الأغنياء وأصحاب النفوذ، وبطبيعة الحال، تستكمل الشرطة هذه الدائرة بعنفها وسطوتها على أولئك البؤساء، وبذلك بات السؤال الذي طرحه الحكيم مشروعاً.. ترى من المجرم؟!

الفيلم

أنتج فيلم «يوميات نائب في الأرياف» عام 1969 بإدارة وإخراج المبدع توفيق صالح، وتمثيل كوكبة من نجوم ذلك الزمان: توفيق الدقن في دور المأمور، أحمد عبد الحليم في دور النائب فضلاً عن رشاد حامد، أحمد الجزيري، عايدة عبد العزيز، حسن مصطفى، راوية عاشور.. وغيرهم. وإلى ذلك لا تختلف أطروحة الفيلم عن الرواية، بل عزز مقاصدها بصرياً وعبر فاعلية المؤثّرات السينمائية المعرفة، فكان فيلماً مؤثراً في كل ما اجترحه توفيق الحكيم من حبكات وحوارات تمتاز بصدقها الفني والموضوعي، بصدق المشاعر والأحاسيس التي تفاعلت في ذات الكاتب الإبداعية.

الرمز

ريم، الفلاّحة الشابة الجميلة التي اتّهمت بقتل قمر الدّولة، ستبدو وكأنّها رمز لمستقبل مصر، فهي الشابة المرغوبة والمحبوبة التي فتنت النائب منذ اللحظة الأولى التي شاهدها فيها، وخلبت لبّ المأمور ولكن الشيخ عصفور - بشخصية بهلول القرية - العارف ببواطن الأمور، يتمكّن من تهريبها لتحتدم الأحداث مجدداً فيبحث المأمور ورجاله عنها بجنون، بينما في الجانب الآخر يعمل على إكراه رجال القرية لانتخاب مرشّح الحكومة في البرلمان، ثمّ تختتم الرواية بالعثور على صندوق الانتخاب في النيل.. وإلى جانبه جثّة ريم.

ومن هنا جاء استنتاجنا بأن ريم ترمز إلى مستقبل مصر وشبابها المهدور، ولاسيّما بعد أن وجدوا جثتها إلى جانب صندوق الانتخابات الحقيقي الذي كان يرمى في النهر ويستبدل بآخر زيفوا أوراقه، والمعنى أنه تمّ وأد الديموقراطية مبكّراً، وإلى جانبها ريم رمز الشباب والأنوثة والمستقبل، التي قد تعبّر عنها حكمة البهلول عصفور:

ورمش عينها يا ناس

يفرش على الميّه

واحدة بياض شفتشي

والتانية بلطية

والتالتة من بدعها

غرّقها في الميّه

فمن الذي أغرق ريم؟!

آراء

من النقد الفرنسي للرواية

Ⅶالكتاب قبل كل شيء، وثيقة انثروبولوجية عظيمة، وصورة من أكثر الصور أمانة، وأبلغها تأثيراً، لمجتمع القرية في مصر.

«جان لاكونور- اللوموند 1975»

Ⅶ هو ديكنز وادي النيل، بل هو كورتلين أيضاً، لأنه امتاز بروح الفكاهة في تصوير مجال القضاء بريشة السخرية.

أندريه روسو – فرنسيس الستراسين 2950

..ومن النقد الإنجليزي

Ⅶ «إن المرارة والسخرية اللتين رسم بهما توفيق الحكيم هذه الصور لا يمكن أن تنسى».

د. س سافاج – سبكتاتور«1947»