«لم أتعب يوماً من العودة إلى أعمال ليوناردو وأوراقه المزدحمة بالملاحظات، كنت أُجزى خيراً كثيراً كلما رجعت إليها، وكنت أتعرف على حكم جديدة، وآراء طريفة، وخبرات علميّة وفنيّة لم أجدها عند غير ليوناردو من الأوروبيين قبله".

بهذه العبارات، قدم الباحث في علوم الفن والمترجم الراحل د. عبد العزيز علون، لكتابه (ليوناردو.. المعلم الفلورنسي) الموزع على 12 محطة بمسيرة ليوناردو دافنشي، تناولت بالتحليل، مساراته ومراميه، وسنوات الوحدة والإعمال والافتراء الباكرة في حياته.

وتوقفت عند ليوناردو التلميذ والمعلم، وعصره، وأعماله الفنيّة والعلميّة، والدراسات التي تناولتها بالنقد والتحليل، وفلسفة الفن عنده، وانتهى الكتاب بوقفة عند سنواته الأخيرة التي شهدت نوعاً من نوستالوجيا الغربة والحنين إلى فلورنسا.

حماقتان

يُشير الكتاب لحماقتين مريعتين ارتكبهما الحلفاء الغربيون ضد ليوناردو: الأولى وقعت في طوكيو عام 1939 حيث قصف الطيران الأميركي صناديق معرضه الذي أعده وأشرف على محتوياته (روبيرتو غواتيلي) المختص بـ«الدافينشيات»، والذي كان صنع ونفذ معظم الرسوم العلميّة التي تركها ليوناردو في أماليه، وعرضها في مدينة ميلانو عام 1938 وقرر نقلها لليابان. أما الحماقة الثانية، فحدثت نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما قصف الطيران أيضاً، دير رهبان الدومينيكان في ميلانو، فأصاب جانباً من مطعمه، حيث توجد جداريّة ليوناردو (العشاء الأخير) والتي تُعتبر من أهم أعماله.

حياته

كان دافنشي (1452-1519) ابن غير شرعي لفلاحة تدعى (كاترينا) وأحد مُلّاك الأراضي والكاتب بالعدل (بيرو)، ولد بقرية (أنكيانو) في سهل نهر أرنو في توسكاني. وتُرك الرضيع لأمه في الريف، وحُرم من التحصيل العلمي في المرحلة المبكرة. ونسي كاتب العدل ابنه حتى عام 1466، عندما انتقل بيرو مع أسرته إلى فلورنسا، وأُدخل الصبي هناك لمشغل الفنان أندريا فيروكيو.

التلميذ والمعلمتُعتبر دراسة ليوناردو عند المعلّم فيروكيو فترة مهمة، واستمرت من 1466 وحتى 1476. إذ كان فيروكيو من المصورين الكبار قبل التحاق ليوناردو بمحترفه، وقد أقلع فيروكيو نهائياً عن الرسم والتصوير، عندما تدخل التلميذ ليوناردو في تصوير السيد المسيح، حيث بزَّ أستاذه، ومن حينها تفرّغ لأعمال النحت والصياغة، تاركاً لتلميذه ليوناردو أن ينوب عنه في الأعمال الأخرى.

الموسوعي

لم يكن ليوناردو مجرد رسام عادي، فهو فيلسوف، ومفكر، وفنان، وعالم. عمل في الهندسة وعلوم النبات والخرائط والجيولوجيا، ووضع عديد التصاميم لاختراعات تحققت فيما بعد. كتب الشعر، وعزف الموسيقى، ومارس الرسم والتصوير والنحت، واشتغل على علم التشريح.

يُعتبر عالم النفس سيغموند فرويد، أهم من كتب عن ليوناردو، ليؤكد أنه لم يعثر في متابعته لأخباره، ما يُثبت تهمة رماه بها كثيرون. وأكد أن صورة العذراء مريم في لوحاته هي صورة أمه كاترينا، ووجهيّة الموناليزا هي صورة أخرى لأمه. مع ملاحظة أن ما وضعه فرويد حول ليوناردو أخذ شكل التقرير عن مريض نفسي، في حين أن فناناً مثل ليوناردو، لا تنطبق على حياته النفسيّة مظاهر المريض.

أعماله وأفكاره

خلّف ليوناردو عدداً ضخماً من الرسوم واللوحات ومن أهمها: العشاء الأخير، الموناليزا، كما ترك أكثر من 6000 ورقة في حياته (وهناك من يقول 13 ألف)، تضم أحلامه وأفكاره ومصادر إلهامه ورغبته بالشهرة وجروح قلبه. ولم تكن مخطوطة بكتاب، بل كانت متفرقة، بعضها مكتوب بشكل صحيح، وبعضها كتب بالعكس، وتحتاج إلى مرآة لقراءتها.

ضمن إطار الاحتفال بالذكرى ال 500 لميلاد دافنشي، جرى تشييد 39 نموذجاً من أعمال مجسمة تُظهر الجانب العلمي الابتكاري لديه، وأخذت هذه الأعمال طريقها إلى متحف الطب والعلوم بلندن عام 2016.