فولفغانغ أماديوس موتسارت (1756-1791) موسيقار نمساوي بدأ التأليف الموسيقي في سن الخامسة من عمره، واستمر في ذلك حتى رحيله المبكر وهو في الخامسة والثلاثين.
تدفقُ الإبداع لديه بغزارة لم يؤثر على نوعيّة هذا الإبداع، ولا قلل من قيمته، أو جعل شعلة إلهامه تخبو، الأمر الذي جعل مؤلفاته تُثري عالم الموسيقى بروائع ما زالت تُثير دهشة المشتغلين في هذا الحقل حتى يومنا هذا.
وبذلك استحق بجدارة لقب «عبقرية الموسيقى» و«الموهبة الاستثنائيّة» و«عبقري الموسيقى بلا منازع» و«العبقريّة الموسيقيّة الأعظم في التاريخ»؛ لأن ما أنجزه من أعمال وهو في سن الطفولة كان باهراً ومتفوقاً، وما أنجزه في سن النضج كان أكثر إبهاراً وتفوقاً.
إبداعات
«موتسارت» كتاب لمحمد حنانا، وُضع بلغة سلسة ومبسّطة ومختزلة، لكنها كافية لوضع القارئ في الإطار العام، لحياة وإبداعات هذا العبقري التي اتسمت بالصفاء والوضوح، وتجلى فيها عمق التعبير، وكمال البناء. كان موتسارت كلاسيكي الأسلوب، لكنه ارتفع بذلك الأسلوب إلى ذرى عالية، وبذلك مهّد الطريق أمام المؤلفين الموسيقيين العظام الذين جاؤوا بعده أمثال: بيتهوفن وشوبرت.
وُلد موتسارت في سالزبورغ بالنمسا، وتنقل بين فيينا وباريس ولندن وهولندا وإيطاليا وبولونيا وألمانيا. ألّف وهو في الثالثة عشرة من عمره أوبرا إيطاليّة (هي الأولى في حياته) حملت اسم «فرعيّة السذاجة La Finta Semplice» وأثارت كثيراً من الجدل، بحيث شكك الموسيقيون الغيورون بأن يستطيع صبي في الثالثة عشرة من العمر كتابة أوبرا وحده.
ومع ذلك تقبّل البعض هذه الأوبرا، وعدّوها مأثرة بالنظر لصغر سن مؤلفها. بعدها قام بتأليف أوبريت صغير وسوناتات وسمفونيّة، ثم كتب أصناف الموسيقى كافة، لكن كانت الأوبرا هي هدفه المفضل، وشغفه طوال حياته.
كان موتسارت رجلاً صغير الجسم على نحو ملحوظ، نحيلاً جداً وشاحباً، طيباً، ذا شعر أشقر كثيف، وكان يحب الرقص، وإسداء الخدمات، لكنه متشدد جداً حين يعزف، فإن حدثت ضجة، ولو قليلة، فإنه ينسحب على الفور. وكان سخياً في الثناء على من يستحق الثناء من الناس، لكنه ازدرى المتغطرسين؛ لأنه أحب أن يكون الناس كما هم، لا أن يتظاهروا بأنهم أذكياء، أو أكثر أهمية مما هم في الواقع.
عمل موتسارت (كما يُشير الكتاب) بسرعة فائقة في تأليف أوبرا «زواج فيغارو» وكان يومها في الثلاثين من العمر، وقد عُرضت لأول مرة عام 1786 ونجحت نجاحاً باهراً. أما المدينة الأولى التي اعترفت بعبقرية موتسارت فكانت براغ وليس عاصمة بلاده فيينا، التي كان فيها مؤلفون موسيقيون آخرون عظام منهم «غلوك» و«هايدن».
وكان يُنظر إلى موتسارت كواحد منهم، لكن في براغ كان يُنظر إليه بصفته الأفضل على الإطلاق. فمنذ اللحظة التي سمع فيها أهالي براغ أوبرا «اختطاف في السراي» عام 1783 لم يعد في آذانهم مكان لمؤلف آخر. وحين قُدمت أوبرا «زواج فيغارو» للمرة الأولى في براغ في يناير 1786 أحدثت ضجة لم يسبق أن أحدثتها أية أوبرا من قبل.
في فيينا، وفي ربيع عام 1787 قدم شاب في السادسة عشرة من عمره، أسمر اللون، قصير القامة، ممتلئ الجسم، لزيارة موتسارت. كان هذا الزائر هو «لودفيغ فان بيتهوفن» الذي أُرسل ليدرس على يد موتسارت العظيم، وقد أدرك موتسارت أن الشاب بيتهوفن يملك موهبة استثنائيّة.
كنزإن ما أنجزه موتسارت -بحسب الكتاب- في حياته القصيرة مذهل، لقد مات صغيراً مخلفاً وراءه كنزاً من الأعمال، في مختلف الصيغ. كان إحساسه بالفن فطرياً، وجمع بين الحرفيّة العالية والحس الغريزي. لم يعرض في أوبراته الإحساس الدرامي فقط، بل وسّع حدود مهارة المغنّية والمغني، من خلال احتكاكه ببعض الأصوات الغنائية العظيمة في زمنه.
ومن خلال النفاذ المدهش إلى الطبيعة الإنسانيّة. فقد خلق على خشبة المسرح شخصيات، ربما يمكن القول إنها تعادل في محيطها شخصيات شكسبير، وكانت موسيقاه فوق قوميّة، تجمعها العناصر الإيطاليّة والفرنسيّة والنمساويّة والألمانيّة، وبالتفوق الفطري، وليس بالتفكير الثوري. ألّف وغيّر مسار السيمفونيّة والرباعي والوتري والسوناتا وغيرها.
كما أن هناك لمعاناً وفرحاً على سطح موسيقاه، لكن ثمة في العمق نظرة سوداويّة طبعت أعماله بازدواجيّة فاتنة ومثيرة. ولهذا قال أحد النقاد: «موتسارت هو الموسيقى، وقد أقرَّ بذلك معظم المؤلفين الموسيقيين منذ عام 1791».
موسيقي
«لا أستطيع أن أكتب الشعر؛ فأنا لست شاعراً، ولا أستطيع أن أقسّم عباراتي كتقسيم النور والظل؛ أنا لست رساماً، ولا أستطيع حتى أن أُعطي انطباعاً حول أفكاري ومشاعري، بالإشارات والتمثيل؛ أنا لست راقصاً، لكن أستطيع أن أرقص مع النغمات..
أنا موسيقي، أتمنى أن تعيشوا إلى حين لا يكون ثمة شيء يمكن أن يُقال بعد في الموسيقى». بهذه العبارات رسم موتسارت شخصيته، مؤكداً أن الموسيقى هي اللغة التعبيريّة التي من خلالها، وحدها، يمكن أن يعبّر عن نفسه وما يعتمل فيها من أحاسيس وعواطف وإرهاصات.