(تتميز الأعمال الكاملة لرامبرانت بطبيعة خاصة بها، ومع ذلك، وفقط خلال تطوره الفني، اتخذت رسومه الفريدة في تاريخ الفن، مثل هذه الطبيعة. إنها تلك الصفات التي تميزت بها أعماله اللاحقة التي تتطلب انشغال المراقب النشط فيها، والتي ما زالت تنتظر حتى يومنا الحاضر مَن يكشفها).

بهذه الرؤية، يطل كتاب (هارمنزون فان ريجن رامبرانت Rembrandt Harmenszoon van Rijn) تأليف جورج مُدبك، ترجمة راتب أحمد قبيعة، على العوالم الحياتيّة والفنيّة لهذا المصوّر الهولندي الشهير (1606ــ1669م)، والذي أطلق عليه الشاعر الألماني غوته لقب «المفكّر»، لأنه كان لا يرى فقط الشخصيات الرئيسة في لوحاته، بل أيضاً الأشكال الثانويّة المحاكة بدقة في بقية الرسم، بحيث يمكن من خلالها إعادة بناء الحدث المرسوم بوضعيّة معاصرة. وعن دار نشر بنغوين صدر عام 2014 كتاب بعنوان «عيون رامبرانت» للكاتب سيمون شاما.

عاشق وجهه

يُعتبر رامبرانت من أهم الفنانين الذين شغفوا بتصوير أنفسهم خلال مراحل حياتهم المختلفة، ما حوّل جانباً كبيراً من أعمالهم الفنيّة، إلى وثيقة تُؤرّخ لمسيرة حياتهم والتبدلات البدنيّة والنفسيّة التي طرأت عليها في كل مرحلة.

فقد قام رامبرانت بإنجاز نحو سبعين رسمة ولوحة لشخصه، سجل فيها يفاعته، وشبابه، ونضجه، وشيخوخته، بكثير من الدقة والأمانة، راصداً بذلك، حركة الزمن الثقيلة فوق ملامح وجهه وانعكاساتها على داخله، وهذه الخصيصة تفرد بها رامبرانت عن غيره من الفنانين.

ظهرت موهبة رامبرانت في الرسم ونمت وتبلورت مبكراً، كاشفةً عن مشروع فنان حقيقي يُعتبر اليوم من قمم الفن العالمي الرفيعة والمتفردة، رغم أن عدد ما أنتج من أعمال فنيّة خلال حياته، لم يتجاوز ثلاثمائة لوحة ورسمة، لكنها كانت كافية بمستواها وقيمها الفنيّة العالية لاعتباره فناناً مبدعاً ومجدداً بامتياز. لم يغادر رامبرانت طوال حياته عوالم التخيل والابتكار، وظل مسكوناً بهاجس اجتراح فعل الفن حتى النهاية.

احتفاء بالضوء

اهتم رامبرانت بالضوء والظل في أعماله، منطلقاً من رغبة واضحة في التمايز عن فناني زمانه، فخلق بذلك اتجاهاً فنياً جديداً ارتبط به وخلّده. يقوم هذا الاتجاه على الاحتفاء بالضوء الذي وظفه ببراعة في لوحاته، مسقطاً إياه على ملامح وجوه شخوصه، ومجسداً به العناصر والمفردات الأخرى في بنية اللوحة، كما قام بتغييب الكثير من تفاصيل هذه البنية في الظل.

هذه المعالجة المتفردة، جعلت منه أهم رسام وجوه في العالم، ولا سيّما وجهه الذي رسمه في عدد كبير من أعماله.

يعتقد عدد من الدارسين أن الرسوم واللوحات التي عالج فيها رامبرانت وجهه، أو التي قام البعض من تلامذته برسمها له، تمثل تاريخاً مرتبطاً بشخصيته وتحوّلاتها والظروف التي رافقتها، بدءاً من شبابه المشتعل بالحماس، وانتهاءً بمرحلة النضج والشهرة الواسعة التي حققها، والخاتمة المأساويّة التي انتهت إليها حياته بإفلاسه وعدم قدرته على تسديد ديونه.

أقر النقاد والباحثون، وجود فيلسوف داخل رامبرانت الفنان الذي استطاع أن ينقل إلى سطح قماش لوحته، جميع التعرجات والاندفاعات والفضول اللاهب في فكره، انطلاقاً من اعتقاد تملكه مفاده أن الإنسان يتدخل، وبصورة مؤثرة في صناعة التاريخ والزمن.

أعظم مترجم للشخصيّة

بشهادة الجميع، كان رامبرانت أعظم مترجم للشخصيّة الإنسانيّة في تاريخ التصوير. فقد استطاع عبر تصويره للوجوه الإنسانيّة (ومن ضمنها وجهه) دراسة ملامح الشخصيّة بعمق، ومنها نفذ إلى طباعها وعواطفها وأحاسيسها، تسعفه في ذلك، موهبته الكبيرة في الرسم، واعتماده على تقنية لونيّة زيتيّة خاصة، دفعت بهذه المادة التعبيريّة القديمة - الجديدة إلى تقديم أفضل قدراتها لاحتضان التعبير العميق للشخصيّة المرسومة.

بمعنى أن التقنيّة هذه أسعفته إلى حد بعيد، بالوصول إلى هدفه من تصويره لهذه الوجوه، وإلى خلق صياغة فنيّة اعتبرت إنجازاً متفرداً، مقارنةً بما كان سائداً من أساليب وتقانات فنيّة في عصره.

ثنائيّة الظل والنور

استعمل رامبرانت ببراعة، تناوبات الظل والنور في تحديد مكونات لوحته وإبرازها. فمن خلال تلاعبه الذكي بعمليّة توزيعها فوق سطوحها وفي بنيتها، تمكّن من استنهاض حالة تعبيريّة نفسيّة عميقة فيها، وطرح أفكاراً جديدة من خلالها، وعبر عن مشاعر وعواطف تجاوزت الظاهر والسطح لتغوص عميقاً داخل الشخصيات المرسومة، ما تطلب من المتلقي إعمال بصره وبصيرته للوصول إلى دلالاتها ومعانيها.

أرخى رامبرانت عباءات العتمة على معظم لوحاته، موزعاً فيها ومن خلالها، بؤر الضوء المكثفة ومدروسة التموضع. فهي تعلو تضاريس الوجوه والأشياء بطريقة خاصة تقود المتلقي إلى دهاليز الشخوص المرسومة، وعوالم أرواحها، ومكنوناتها من العواطف والمشاعر والأحاسيس.

كل شيء في لوحات رامبرانت تغشاه الظلال، بما في ذلك الضوء. فالضوء عنده (كما يقول الناقد الفرنسي أمرومنتان) يبدو كأنه يخترق الظلال، ليظهر من خلالها أكثر بعداً، وأوفر إشعاعاً.

غموض ووضوح

لجأ رامبرانت إلى تلطيف حدة التباين بين الظل والنور غير المعهودين في أساليب غيره، من دون أن يتخلى عن إحداث التأثير بتلك الأجواء الضبابيّة، من دون حدة أو تباين فج، وإنما قام باستخدام الظلال الشفافة بشيء من التلذذ، مُؤثراً إياها على الألوان الصافية، مع ملاحظة أن عباءات العتمة السوداء الضبابيّة، التي يُكثر من استخدامها في لوحاته، لا تحجب قط تفاصيل المرئيات فيها، مهما بلغ عددها، لأنه عمد لإقامة توافق تام بين الغموض والوضوح، والظل والنور، ولجأ إلى إظهار تضاريس الجسد كالأنف، أو الإصبع، من خلال الضوء الذي تغشاه تلك الظلال المعتمة، بكثير من الوضوح غير المادي، وبهذا تستوي قدرته على الكشف عن المرئيات، أو إخفائها، تبعاً لمنهاجه الفني الخاص.

تجارب

على الرغم من أهمية ما قدمه على صعيد رسم الوجوه، إلا أن ما قدمه رامبرانت من موضوعات أخرى، لا تقل أهمية عنها. من ذلك لوحته (الخفارة الليليّة) و(العائلة المقدسة) و(الإنزال من على الصليب) و(درس في التشريح) و(نقابة صانعي الثياب) و(أرميا يرثي خراب القدس) وغيرها.

إن الأجسام في لوحات رامبرانت (بحسب ليونيللو فينتوري) أشكال تتكشف عنها الظلال الشفافة، يمكن للفنان أن يُعبّر عنها على هيئة إيحاءات مجردة من الصفة الماديّة، بحيث تبدو هذه الأجسام في لوحاته، أقرب إلى كائنات أثيريّة تقمصت صوراً من الواقع. فالأضواء فيها توحي بالظلال، والأجواء الضبابيّة التي تغشاها، تُنشّط إحساسنا بما يتردد فيها من نبض وحركة، حتى لو كانت تلك الأجسام في حالة من السكون.

صور ذاتيّة

تأتي اللوحات التي صوّر فيها رامبرانت نفسه، في مراحل حياته المختلفة، في مقدمة إبداعاته الفنيّة، لأنه معني بها أولاً، ولأنه وثّق من خلالها لمسيرة حياته بكل أطيافها وألوانها من الفرح والحزن، والنجاح والإخفاق.

وقبل هذا وذاك، قيامه بالرصد الصادق والمتقن لتحولات ملامح وجه وجسده بمرور الزمن، ووفقاً لأوضاعه الماديّة والنفسيّة التي كان يعيشها وقت قيامه برسم اللوحة، بحيث يمكن للمتلقي التعرف إلى وضعه المادي والنفسي حينها، من خلال تعابير الوجه، ووضعية الجسد، ونوعيّة الثياب التي يرتديها، والوقفة المختارة، والنظرة التي يرمق بها المتلقي، وهي دوماً تتجه بشكل مباشر لعينيّ المتلقي، معبّرةً عما يعتمل داخل صاحبها.