في حبكة من التوتر الكثيف، وبتدفق أدبي متواصل من التكهنات والشكوك، يرسم الروائي الإسباني خافييز مارياس، بجرعات مشحونة عاطفياً، روايته «بيرتا إيسلا» عن امرأة إسبانية أمضت 21 عاماً (من 1969 إلى 1990) من حياتها بانتظار عودة زوجها. كانت قد قررت أن تستمر في حياتها معه، أو بالأحرى مع ذاك الرجل الذي يشبهه، والذي يبدو أكبر منه. لكنها خلال غيابه كبرت بدورها في السن، وكانت شابة يافعة عندما تزوجت. وعلى مدى عقود، تختبر حبها له وصبرها، فيما يشهد العالم على اضطرابات السبعينيات وحرب فولكلاند وسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي.
يتجاذب العلاقة نوع من المظاهر الممزوجة بالتكهنات، والاستياء الممزوج بالإخلاص، وتتخللها نقاشات عن الحقيقة والأخلاق واستحالة معرفة الآخر، مع رحلات عبر الأدب والتاريخ.
تقليد
الرواية الإسبانية الصادرة في 2017 تمت ترجمتها إلى الإنجليزية أخيراً، وكان هدف الكاتب من إطلاق اسم بطلة الرواية بيرتا إيسلا عنواناً للكتاب، اتباع تقليد قديم درج في أعمال كلاسيكية عريقة تحدثت عن نساء وقعن ضحية علاقات إنسانية غير سوية، مثل جين إير، وآنا كارنينا، ومدام بوفاري. وفيما تبدو الرواية قصة حب وجاسوسية ما بين مدريد ولندن للوهلة الأولى، إلا أن اهتمامات الكاتب منصبة بدرجة أكبر على مشاعر الانتظار والخداع الذاتي والشك والارتياب، ومحاولة فهم النفس البشرية الراغبة في تغيير مصائرها والمنفى الميؤوس منه الذي جلبته لنفسها.
وفي سياق القصة، يلتقي شاب وشابة في مدرسة ثانوية بمدريد في الستينيات، فترة دكتاتورية فرانكو، حيث يقعان في الحب ويقرران الزواج وقضاء حياتهما معاً. الفتاة من سكان مدريد، فيما توماس ينتمي إلى أصول إنجليزية إسبانية. ثم تأخذ الدراسة توماس إلى أكسفورد لنيل درجة الدكتوراه في اللغات الأجنبية، حيث يثير إعجاب أستاذه بيتر ويلرن، لإتقانه اللغات وتقليد اللهجات، كما يلفت انتباه جهاز المخابرات البريطانية، فتجنده كعميل سري في صفوفها، ويتغير على الأثر مسار حياته وحياة شريكته.
غياب
كانت الحياة التي خططا لها قد ضاعت إلى الأبد، وستحكم العلاقة الأسرار والأكاذيب، ولن يتمكن توماس يوماً من الكشف عن هوياته المتعددة لزوجته، فيما يتحول الواحد منهما غريباً عن الآخر. الحياة المزدوجة التي حكم على نفسه أن يعيشها تتطلب منه فترات طويلة من الغياب، وستتقبل بيرتا غيابه من دون أسئلة، إلى أن تلتقي بالصدفة مع زوجين متعاطفين مع الجيش الجمهوري الإيرلندي؛ فهل هو الرجل الذي تزوجته، يا ترى؟!
كان الكاتب منشغلاً دوماً بفكرة مغادرة شخص لمنزله ثم عودته بعد فترة، من دون أن يحظى بالاعتراف الكامل، كنوع من شبح، ويقول على لسان بطلة روايته بيرتا: إن «العودة هي الخيانة الأكثر عمقاً».
ويضمن روايته تساؤلات كثيرة عن طبيعة الذاكرة التاريخية، وما ينبغي تذكره أو نسيانه، في أسئلة لا إجابات عنها، فيما يستمتع المرء في رؤية الشخصيات التي تتمتع بدرجة من الثقافة تناقش تلك الأفكار، منشغلة بأسئلة فلسفية ومعرفية بشأن طبيعة الحقيقة بدلاً من عواطفها أو انشغالاتها اليومية.
القصة السوداوية مروية من منظور أنثوي، وعلى لسان بطلة الرواية بيرتا إيسلا جزئياً، بنثرٍ خطُّه الروائي حُبك بإيقاع أقرب إلى الشعر، وتدفقٍ أدبي مرصع بإشارات إلى وليم شكسبير وتي إس إليوت، مع ميل للاستطراد بصفحات من الأفكار مما يفقد الكتاب الزخم، وفقاً لنقاد الأدب.
ترشيح
لكن الميل للحوارات الطويلة، والشخصيات الغريبة، والملاحظات الفكاهية، أو التعليقات بلمسة عبثية يضع الروائي الإسباني خافيير مارياس على لائحة الكتاب الأكثر قراءة باللغة الإسبانية، ومن المرشحين المحتملين لنيل جائزة نوبل للآداب في المستقبل.
ويقول: إن قدرة الرواية على أن تخدم أداة لاستكشاف الفروق الدقيقة للطبيعة البشرية، هذه ما تجعل منها نوعاً من الحقيقة الوحيدة تقريباً. فالرواية تبدو قادرة على تكوين جوانب مرئية للظرف الإنساني غير مرئية للعين المجردة، فيما الحياة الحقيقية متغيرة وقابلة للطعن أو التشكيك. ويعتقد أنه لما كانت الكذبة شيئاً يتعلق بالحقيقة، ولما لم تكن هناك حقيقة تسبق القصة الخيالية، فإن عالم القصة الخيالية ينتمي إلى الابتكار أكثر مما للأكاذيب. في رواية «بيرتا ايسلا»، هناك الحب والزواج، والأهم هو الأسرار التي يخبئها كل فرد في حياته، فيما يشكل الأدب، عبر تنقيبه في العلاقات الزوجية والأفكار الوجودية، الأداةَ الوحيدة للكشف عما في دواخلنا من عواطف مدفونة وأقنعة ورغبات.