«الجيش الأحمر»... «الحزب الشيوعي العالمي!» و«الحزب الشيوعي السوفييتي!»، تلك هي العبارات الأخير ة التي تفوّه بها ريتشارد سورج بلغة يابانية واضحة قبل تعليقه على حبل المشنقة.

«الرجل السيئ الذي أصبح جاسوساً عظيماً»، قرر ماثيو أوينز أن يكتب سيرة حياة بعنوان «الجاسوس المعصوم.. سيرة مشوقة عن عميل ستالين السري»، علماً أن كثراً سبقوه دون أن يكون أي منهم الأول، كما هي حال أوينز في الوصول إلى مصادر جديدة مستقاة من الاتحاد السوفييتي سابقاً ومتغلغلة في الملفات الأرشيفية لجهاز الاستخبارات الروسية «كي جي بي» لتتمخض عن حبك فصول روايةٍ نابضة بالحياة والتشويق، معمّقة الأبحاث، متقنة الإعداد.

مرح وتسلية

حظي ماثيوز بقدر هائل من المرح والتسلية بحياة سورج، المثقلة بأحداث بالكاد يمكن تصديقها، وقد كتب فيه: «كان شيوعياً مثالياً وكاذباً متهكماً، إنه متحذلق، متباهٍ يدمن المخاطرة عديم الانضباط، لقد كان مثقفاً مغروراً مليئاً بالغضب، أوساطه المعتادة تتوزع بين الكازينوهات والبيوت المشبوهة وقاعات رقص شنغهاي وطوكيو ما قبل الحرب».

سورج المولود في باكو الأذربيجانية لأم روسية وأب ألماني حاول العيش والتأقلم في موسكو لبرهة، حتى أنه تزوج من كاتيا السوفييتية التي أمضت حياتها تشكو غيابه الطويل. كانت لسورج طموحات بأن يصبح أكاديمياً إلا أن رغبته بالتشويق والإثارة استحوذت عليه، فانتهى به الأمر مجنداً من قبل الكومنترن ومرسلاً ضمن بعثةٍ إلى شنغهاي، التي كانت آنذاك مدينة تحظى بالحرية تحت سيطرة القوى الاستعمارية، وتكتظ بالأجانب من ذوي السمعة السيئة، وتشكل مركز الجاسوسية. هناك أسس سورج شبكة جواسيس كشفت عن سيل من المعلومات الاستخبارية القيّمة المرتبطة بالحرب الصينية الأهلية وسواها، وذلك قبل أن ينقل إلى البلد الذي سيصنع اسمه: اليابان.

وكانت طوكيو تختلف بشدة عن شنغهاي، حيث عدد الأجانب أقل والحكومة شديدة الريبة، وحيث العمل التجسسي يتطلب قدراً عالياً من الاحترافية. سورج الذي كان يعمل بعزم فأسس شبكةً استطاعت أن تخترق الإدارات اليابانية وتحصّل على معلومات خطيرة لصيقة بنوايا البلاد ومواردها وقدراتها، وتغلغل داخل المجتمع الياباني مغوياً النساء مستدرجاً الرجال ومؤسساً لسمعة المراقب الأجنبي الأكثر معرفةً بالسياسة اليابانية.

عميل نادر

وكان سورج عضواً في الحزب الشيوعي السوفييتي والحزب النازي في وقت واحد، حيث شغل منصب المستشار الخاص للسفير الألماني، وعاشق زوجته وأحد رواد الحانات الأكثر طيشاً وفظاعةً في أقذر النوادي الليلية في طوكيو، وكان المزود الأكبر لأخطر الأسرار لاتحاد الجاسوسية السوفييتي.

واتسمت أسرار سورج بأهمية ودقة المعلومات التي قيل إنها غيرت مسار التاريخ العالمي حين أدت لانتصار ستالين الساحق على قوات هتلر النازية.

ريتشارد سورجي، العميل النادر الذي أبهرت أعماله كبار قيادات الحزب الشيوعي الذي وصفه إيان فليمينغ بـ«الجاسوس الأعظم في التاريخ»، ورأى جون لوكاريه أنه «معصوم من الخطأ»، لكن السؤال الحقيقي يقول، هل كان كذلك بالفعل؟ الصورة الكبرى تظهر أنه فشل.

وقد نجح ماثيوز في شرح السبب وراء ذاك الاعتقاد، فالألمان نفذوا اجتياحهم وسقط أكثر من 20 مليون روسي قتيلاً في الحرب، أما سورج فعلى الرغم من روعته وفطنته، لم يستطع الحؤول دون وقوع الكارثة.

مثاليات

الفصل الأخير من كتاب أوينز يسلط الضوء بدراماتيكية على التناقض بين المثاليات العليا المعلنة للاتحاد السوفييتي وواقعه، إضافة للمصائر البائسة لأشخاص نذروا حياتهم للدولة الشيوعية، فستالين لم يكن يستحق في نظر أوينز سورج، وحتى النساء اللواتي تحطمن كن يستأهلن أفضل من سورج، ومع ذلك يأتي كتاب «الجاسوس المعصوم، سيرة مشوقة عن عميل ستالين السري» زاخراً بالفكاهة والنظرة العميقة للأمور وخفة أصيلة.

بقامته الممشوقة وعينيه الزرقاوين وطلته البهيّة وعدم تأثره الواضح بدنو أجله كان مدركاً ربما أنه فيما يدخل رأسه حبل المشنقة يسهم في الحبكة الفنية لرواية افترض محقاً أنها أسطورة متواصلة قيد التصنيع.