حسناً فعل الدكتور ميشال جحا بإعادة نشره المناظرة الدينية بين الشيخ محمد عبده (1849 -1885)، أحد المجددين في الفقه الإسلامي في العصرالحديث، وأبرز دُعاة الأصلاح وبين المفكر اللبناني فرح أنطون (1874 - 1922)، أحد الرموز الأوائل للتيار العلماني، في هذا الوقت العاصف والمظلم من تاريخنا العربي، وعلى وقع المجازر التي تُرتكب باسم الدين، وتحكّم التيارات الأصولية المتشددة بمصير الثورات العربية وتحويل وجهتها من النور إلى الظلمة.
بدأت هذه المناظرة كما يشير الكاتب، قبل نحو 110 سنوات، في جو من الحوار الحر، إثر نشر فرح انطون بحثاً في مجلّة »الجامعة« حول »تاريخ ابن رشد وفلسفته «، أثار ما اعتُبر تطاولاً على الإسلام حفيظة الشيخ محمد رشيد رضا، فحرّض الشيخ محمد عبده على الردِّ عليه، وانتهى الجدال بينهما إلى ظهور كتابين هما: »ابن رشد وفلسفته« لفرح انطون والإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، للشيخ محمد عبده، والجدير ذكره أن المتحاورين الكبيرين أصبحا في نهاية المطاف صديقين حميمين.
يوضح الباحث أن الشيخ محمّد عبده، افتتح رده، معرباً عن استيائه من مقابلة فرح أنطون في مقالة له حول الدين المسيحي والدين الإسلامي، من حيث اضطهاد العلماء في النصرانية والإسلام وتكفيرهم وإهانتهم وقتلهم دفاعاً عن تقاليد الدين.
السؤال الذي يطرح نفسه أيّهما كان أكثر تسامحاً الدين الإسلامي أم الدين المسيحي؟
يرى فرح انطون أن الدين المسيحي كان أكثر تسامحاً من الدين الإسلامي لأن علماء مسيحيين كُثراً، أمثال رينان وروسو وفولتير وديدرو، تحاملوا بأقوالهم على المسيحية، ولم يتم التعرّض لهم، في حين أن ابن رشد أهين وأُقصي، رغم أنه لم ينكر شيئاً من أصول الدين، إنما نظر بعقله وشرح فلسفة أرسطو فقامت قيامتهم عليه.
ويواجه الشيخ محمد عبده هذه التبريئات بسلسلة من الشواهد، عن اضطاد المسيحية ليس للمسلمين واليهود والعلماء وحسب إنما للمسيحيين أنفسهم، ويورد عدداً من الوقائع التي تدعم رأيه، ليخلص إلى أن الدين الإسلامي كان أكثر تسامحاً، فالإسلام يكفّر من ينحرف بأفكاره عن أصول الدين، لكنه لا يلجأ إلى حرقهم.
ولم يقف فرح انطون كما يوضح الكاتب موقف المشكك من الديانتين، بل موقف المنتقد لرجال الدين، الذين يتاجرون بالدين ويستغلونه من أجل الفرقة والتنابذ، مُكررا دعوته إلى حق الفرد بأن يؤمن بدينه أو أن لا يؤمن بأي دين، داعياً إلى الفصل بين السلطتين المدنيّة والدينية، وإطلاق الفكر الإنساني من كل قيد، والمساواة بين أبناء الأمة الواحدة بقطع النظر عن دينهم أو معتقدهم، وإبعاد السلطة الدينية عن التدخل في الشؤون الدينية، مُشدداً على استحالة الوحدة الدينية.
ويعرض المؤلف لموقف محمد عبده من مسلمات فرح أنطون العلمانية فيرفض الفصل بين الدين والسلطة، لأن الملك الحاكم برأيه ، لا يمكنه أن يتجرّد من دينه مع وجود الفصل بين السلطتين، فالأجسام التي يديرها الحاكم هي الأجسام نفسها التي تسكنها الأرواح، التي يديرها رجال الدين، ويردّ فرح انطون على ذلك بقوله أن الحاكم وُجد ليكون خادماً للأمة، وهو ملزم التقيد بالقونين والتشريعات الوضعية والدستورية لا غير.
المناظرة بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون، وبعد مضي أكثر من قرن على حدوثها تفتح أمامنا الحاجة إلى إحياة السجالات الفكرية وتناول كل القضايا والمشاكل والخلافات بروية وتبصر وإخضاعها إلى منطق العقل، المحكوم بالانفتاح وقبول الآخر ومحاورته وجهاً لوجه، بعيداً عن العصبية ولغة التخوين والتكفير والإقصاء والقتل.
المؤلف في سطور
ولد الدكتور ميشال جحا في بيروت 1930، وهو أستاذ جامعي وعضو جمعية النقد الأدبي، من مؤلفاته »خليل مطران«، »الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا«، »سليم البستاني«، »إبراهيم اليازجي«.