يعني كتاب «المسلخ رقم 5.. العنف وفانتازيا الخيال العلمي في روايات الحرب العالمية الثانية» للدكتور صديق محمد جوهر، بالفحص النقدي والتحليلي لرواية «المسلخ رقم 5» رائعة الروائي الأميركي الشهير كيرت فونيغوت المنشورة في العام 1969، في سياق تراث روايات الحرب الأميركية،.

وفي إطار النظرية الأدبية المعاصرة بهدف استقصاء البناء بعد الحداثي، سواء كان سرديـاً أو فكرياً في تلك الرواية، وإحلالها في موضعها المناسب بصفتها ذلك الإنجاز المتميز في تراث رواية الحرب الأميركية. وعبر هذا السياق النقدي، تعمدُ الدراسة إلى تحليل ما في الرواية من خيال علمي ووحدات زمنية يهيمنان على أجزاء البنية الروائية؛ حتى يتسنى إبراز المواضعات التي تحكم الرؤية الأدبية والجمالية للمؤلف.

ويسعى هذا الكتاب إلى تسليط الضوء على الاستراتيجيات السردية التي اصطنعها المؤلف فونيغوت، من أجل تفكيك وهدم تقنيات السرد القائمة على الترتيب الزمني والسائدة في روايات ما قبل الحرب العالمية الثانية التي انهمكت في تعظيم الحرب وتمجيد أبطالها، ما من شأنه تعضيد مسلك فونيغوت في رفضه مفاهيم ومواضعات السرد التقليدية للرواية، وذلك بوصفها إعادةَ تمثيلٍ للواقع ومحضَ محاكاةٍ له.

ولهذا، ينحاز فونيغوت إلى ما يجمع بين الخرافة والخيال كوسيط ديناميكي مناسب، تَتَضام داخله جزئيات الحقائق المعقدة للحرب، إذ استطاع أن يفصح عنها جماليـاً في رواية «المسلخ رقم 5» التي اتخذت لها عنواناً فرعيّاً هو «الحملة الصليبية للأطفال».

ويسعى الكتاب، أيضاً، إلى إظهار الأثر الذي خلفته الحقبة المائجة الموارَّة في أواخر الستينيات على البنية السردية/ الفكرية في رواية فونيغوت، وهو ما حمل المؤلف على تجريب تقنيات جديدة، وإدخال ذكريات شخصية إلى متن الرواية، ليجعلها، بذلك، جنساً أدبيّاً هجيناً، نستمع فيه إلى الأصوات المتعددة، وهو ما جعل هذا العمل نموذجاً يحتذيه روائيو ما بعد الحداثة.

تأسس الكتاب على مدخل عام، تناولت فيه: رواية الحرب والموروث الثقافي الأميركي بصورة مطوَّلة، ومن سبعة فصول تناولت رواية «المسلخ رقم 5» من جوانب مختلفة.

وهي تنسدل على النحو الآتي، الخيال العلمي وروايات الحرب التقليدية، سرديات الزمن وآليات ما بعد الحداثة، حركة الرواية بين الواقعية والفنتازيا، الترالفمادور وإشكالية السيرة الذاتية، الطرائق السردية وتأصيل البنية النصية، استراتيجيات التناص، تفكيك أسطورة الحرب.

يقول صديق: «اتجه فونيغوت إلى كشف الوجه القبيح للحرب، وحزم أمره على ألا يكتب روايةَ حربٍ تقليدية يمكن أن تمتد إليها أيادي نجوم السينما، من أمثال: فرانك سيناترا، جون وين. فتمثل على الشاشة الفضية بما عهد عن مثل هذين السينمائيين من ابتذال وسوقية.

وراح فونيغوت يؤكد ويلح في روايته على أن الجنود الأميركيين إبان الحرب العالمية الثانية لم يكونوا سوى أطفالٍ أو صبية أغرار، غُسلتْ أمخاخهم وضللتهم، أيما تضليل، أفلام هوليوود التي ما فتئت تعرض مغامرات الجيش الأميركي في الحروب والمعارك.

لقد غلبت عليهم الحماسة وأغراهم الكبار بالانغماس في غمار حرب وحشية، وتزامن ذلك مع سرد الأساطير الأميركية الزائفة عن البطولة، وظاهرة جون وين السينمائية بما تنطوي عليه من قيم الغزو والقهر والولاء الأعمى».

لعل من النتائج الأكثر أهمية التي يخلص إليها صديق أن رواية «المسلخ رقم 5» التي كتبها كيرت فونيغوت الابن في العام 1969 قد أضحت واحدة من أوسع الروايات رواجاً وشعبية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتُعزى شعبية هذه الرواية، إلى حد بعيد، إلى حقيقة كونها تعتمد بقوة على رصيد رواية الخيال العلمي؛ فالأسطورة المبتدعة التي تنفخ الروح في نص الرواية هي أسطورة السفر إلى الفضاء.

وفي الرواية، تأتي أسطورةُ الجنس المختلف كلونٍ من الأسطورة المبتدعة الداعمة. ومن هنا، يَرِدُ في الرواية الحديث عما زُعِمَ أنه «الأجناس السبعة فوق الأرض، كلٌّ منها لا غنى عنه للتناسل والتكاثر».

ولئن كانت أجزاء الرواية المفعمة بالخيال العلمي، تشبع حاجة القارئ المعاصر للتحليق في أجواء الخيال، فإن الأجزاء المتعلقة بالحرب العالمية الثانية تخلف في وجدانه انطباعاً غائراً لا يزول من جراء ويلات هذه الحرب، وما صاحبها من فظائع.

يشيعُ في رواية (المسلخ رقم 5) الموتُ، والجنود الأموات في كل مكان؛ إذ خلف قصف طائرات الحلفاء لمدينة دريسدين بين عشية وضحاها عشرات الآلاف من الناس جثثاً وأشلاء يستحيل تمييزها أو التعرُّف إلى أصحابها.

ويستحيل على الضمير الإنساني التصالح مع وقائع من قبيل الإغارة الجوية على دريسدين وقصفها ومحوها، ولا يمكنه أن يضرب صفحاً عن معسكرات الاحتجاز والتعذيب والإبادة. إن الوعي والضمير البشريين يتداعيان، حين يواجهان بأية صورة عالمية تنضح وقائعها، بالتعامي عن قيمة حياة أي فرد من الأفراد، وفي الوقت الذي ينبغي فيه أن تُتخذ استراتيجية للمقاومة والبقاء، فإن الوعي والضمير يلوذان بعالم من الوهم والحلم.

ويشير د. صديق إلى أن رواية (المسلخ رقم 5) تضرب عصفورين بحجر واحد؛ فبينما تعمد إلى تنبيه البشر لفظاعات الحياة على الأرض، فإنها تعمد، أيضاً، إلى تسكين الآلام الواقعية لتلكم الفظائع مستعينة على ذلك بجرعات كبيرة من الخيال والوهم. وهناك ملمح آخر من ملامح ما بعد الحداثة في الرواية، ألا وهو التناص الذي يتمثل في الرجوع إلى عددٍ لا يستهان به من النصوص المتنوعة ما بين روائية ودراسات توثيقية وكتب في النقد الأدبي.