هل نحن نفكِّر؟ كيف لو وضعنا ذاتنا في غرفة أو قفص، لا في قبر. هل ستخرجُ الأفكار بشكلها الجذَّاب والمُثير والمُنبِّه والساحر وكذلك الأفعال. وهل تتَّسع غرفة واحدة لها، أم إنَّها تحتاج لأكثر من غرفة؟.. الأديب الإماراتي سلطان العميمي يضع بطله قرواش الرابع، في غرفة ويتلصَّص عليه من (ثقب) لا من فتحةِ بابٍ. يتلصَّص على شعور وأفعال شبيهه..
بأسلوب قصصي ليعرف المُنصرم والراهن والممكن: «في غرفة صغيرةٍ في مكانٍ مجهول، ثمَّة شخصٌ يتلصَّصُ من ثقب الباب على شخصٍ كان يتلصَّص على شخصٍ آخرَ في الغرفة المجاورة له». أي كان يتجسَّس وعلى شخصٍ يبدو أنَّه (مثقَّف). فهو قارئ مثل الشخص الذي وضعه في الغرفة ويتلصَّص عليه، بل إنَّه يتدخَّل في عقله، في ذاكرته ويعرف بماذا يفكِّر. يقول الراوي:
ها هو يتذكَّر رواية «الآخر مثلي» لخوسيه ساراماغو، ثمَّ ها هوَ يُمسك بكتاب «الحمار الذهبي» ورواية «المسخ» لكافكا: «عرفتها من غلافها الأخضر الذي أستطيع تمييزه من بين آلاف الكتب بسبب حجمها الصغير وغلافها السميك اللمَّاع، حتى اسم المترجم أعرفه وهو منير بعلبكي. هل يقرأ هذا المخلوق أفكاري؟ أنا شِبْهُ متيقِّنٍ أنَّه يعلم بوجودي في الغرفة.. وإنْ كان يقرأ الكتب نفسها التي أقرؤها فهذا يعني أنَّنا متشابهان في طريقة تفكيرنا أيضاً».
هل حبسَ سلطان العميمي بطلَهُ الذي هو شبيههُ في غرفةٍ واحدة، كي لا يمشي مع قطعان البشر إلى حتفهم - وأنَّه بتقديرنا (مثقَّف)...؟ وهذا افتراض. هل يختبره؟ إذا كان كذلك فلماذا لَمْ يُصَبْ الشبيه بشللٍ ذهني وبدني في محبسه طيلة الزمن الروائي.. سؤالْ. لم يصرخ.. يستنكر، يتأمَّل، ينقهر، يظمأ، لم يرتوِ، ينقص، يزيد، يعقل، يجن؟.. يكسِّر جليد الرتابة والحياة النمطية بينه وبين الأصل - أنا الراوي؟؟
نتبين في العمل خوف الراوي وهذا في مبتدأ الرواية كمدخل بوليسي وهو يتساءل: ماذا خلف الباب؟ «أنحني نحو ثقب القفل بعيني لاستكشاف ما يوجد خلفه، ثمَّة غرفة أخرى، يوجد فيها شخص، كان واقفاً كي يضع كتاباً في رفوف مكتبته الشبيهة بمكتبتي، ثمَّ التفتَ ليُصبح وجهُهُ في مواجهة عيني قبل أن يجلس، دقَّقتُ في ملامحه جيداً، ذلك الشخص كان أنا».
هي أسئلةٌ ليس القصد منها التشويش على الحواس ولا على التفكير، وإن كان العقل يُخطئ. فسلطان العميمي يُخيِّلْ - أي يُعيدُ تشكيلَ صورٍ وأفعالٍ جديدة إنْ لم نقتنع بها، فإنَّما هي تُثيرنا، تُغني وتُعمِّقُ الوعي. نلتذّ. ولا شكَّ أنَّ الروائي يتفرَّد في سرده، فهو ليس آلة تسجيل. هو صانع لحظة.. يركِّبُ أفعالاً - أحداثاً.
إن الشبيه أيضاً عند سلطان العميمي، لم يلعب ذاك الدور الشيطاني الذي لعبه «مفيستو» شيطان غوته، فأغوى «فاوست» بـ«مارغريت» الحسناء كي يتمسَّك بالحياة فلا ينتحر بالسم. العميمي كما لو أنَّه كتب الرواية فقط ليتلذَّذ بمتعة التلصص، وليس لبناء لحظة تأسيس فلسفية على أنقاض مآسي إنسانيتنا.
لا شكَّ أنَّ الرواية في أحد مآلاتها تسخر من واقعنا، فهي مكتوبة بحسٍّ سوداوي، لأنَّها وهي تتلصَّص، تتجسَّس على الشبيه كمن يجلد نفسه. فالزمن يشلِّحنا ثياب الأمل. زمنٌ لم يحلِّل العميمي طبيعته وتمفصلاته في حالة بطله وهو يتنقَّل ما بين الزمن العادي والزمن الاستثنائي.
في نبشه تاريخ عائلة القرواشية التي يُقحمُ الروائي سلطان العميمي سيرتها في الرواية - يسمِّي شبيهه قرواش الرابع، لأنَّه هو الثالث، ووالده الثاني، وجدُّه الأوَّل - كان الراوي على تفاهم فيما بين أجيالهم الأربعة، لم يتخاذلوا، لم يتصارعوا.
في الرواية هناك الكثير من الأخبار، من شأنها أن تقهر الكون المادي، وتعيد للإنسان روحه في تجاوزه حدود الإحساس وهي مُصادرة خلّاقة لعسف ونمطية الواقع. سلطان العميمي لم يستثمرها. وهذا ما يدفعنا لأن نسأل: هل عرّى المؤلِّف عواطف وآلام شبيهه، أم إنَّه كان يُعذِّبُه؟ فيكشف عجائب وغرائب الذات الإنسانية حين تخلو بنفسها...؟
الكتاب: غرفة واحدة لا تكفي
تأليف: سلطان العَميمي
الناشر: ضفاف بيروت، والاختلاف
الجزائر 2016
الصفحات:
212 صفحة
القطع: المتوسط