يحاول كتاب «منازل النص الأدبي» لمؤلفه الدكتور إيهاب النجدي، التحرر من السؤال التقليدي، والذي يتجدد بين حين وآخر: أي النصين الأدبيين أفضل: النص الشعري أم النثري؟ ويرى عوضاً عن ذلك ضرورة توجيه النظر إلى دلالتين أهم وأعمق، الأولى تتصل بالتميز والحدود الفاصلة بين الأشباه، أما الثانية فتتصل بالتحاور والتلاقح بين الأنواع والأشكال الأدبية، وهي الحقيقة الأدبية الثابتة التي نلاحظها، على سبيل المثال، بين الشعر والسرد وبين فنون المذكرات والرسالة والتحقيق الصحفي من جانب والقصة من جانب آخر، فالحوار بين القصيدة ونصوص النثر، كما منازل القمر تتجاوز وتتلاقح ليولد بدر التمام.

ويؤكد المؤلف على أن المقصد من كلمة (النص) هنا، مغاير للمقصد الذي يتبناه اتباع تيار الحداثة وما بعد الحداثة، عند استخدام الكلمة ذاتها، حين يميلون إلى إسقاط فكرة التجنيس، وقيمة الأنواع، بدافع إسقاط كل سلطة مركزية، ومنها بطبيعة الحال محور الكتاب الحالي (سلطة النوع)، ويرى أنه ربما يكشف تجذر جدلية الإقصاء والتجاور عن حقيقة حضارية ومشترك إنساني، ينزع نحو المفاضلة والتمايز بين الأنواع، ولم يمنع ذلك المنزع استغراق قطبي الفلسفة القديمة في معالجة الفنون الدرامية الكبرى مثل الملهاة والمأساة والملاحم، وهي الفنون المؤثرة في انطلاقة الأدب الأوروبي في عصر النهضة، رفضت المفاضلة في هذا السبيل مستندة على ما يمكن من محاجاة وعصف فكري، وأسس فلسفية عابرة للحدود وموغلة للأزمة.

ويشير المؤلف إلى أنه يمكن الوقوف عند ظاهرة موسيقية معنوية ـ تبدو مهمة في هذا السياق ـ أي تجاور الشكلين الخليلي والتفعيلي في إطار الديوان الواحد وفي سياق القصيدة الواحدة، فلعلها من العوامل الفنية البارزة التي أسهمت - بقصد أو بدونه ـ في رسوخ الشكل الجديد، واستقباله الاستقبال الحميد لدى قراء الشعر ومتابعيه.

وينتهي المؤلف في معالجته للأنواع الأدبية والعلاقات فيما بينها، إلى أن السرد مكون بارز من مكونات النصوص النثرية الجديدة، فهي نصوص سردية في الغالب، تقع في منطقة وسطى بين النثر الشعري والنثر القصصي، وربما يعود ذلك لأن الأديب المعاصر محاصر بفيضان من فنون السرد وطرائقه.

كما أن الخيوط المشتركة بين النصوص الجديدة والشعر متصلة، وهي متصلة أيضاً بين الشعر وبقية الفنون الأدبية، وبينه وبين الفنون البصرية والسمعية، وإذا كان التراسل بين الفنون قائماً فإن الفروق الفاصلة بينهما قائمة كذلك.

وتطرح دراسة المؤلف الحالية سؤالاً هو: إلى أي مدى يمكن الاستفادة من إمكانات السرد في الشعر، دون أن يفقد الشعر خصوصيته النوعية، وجوهره الخلاق؟ وغاية السؤال لا تخفى، إذا كان السرد في الشعر مطلباً من مطالب التجديد، فإن التضحية بشعرية القصيدة على مذبح السرد مهلكة لكليهما.

بيد أن السرد القصصي يأخذ من الشعر ويعطيه، فإمكانات كل منهما مبذولة للآخر، وأحياناً تكون (الروح) الجامعة هي الروح الفارقة، فالقصة تتحرك في مدارات، والقصيدة تحلق في مدارات أخرى، لكنهما يجتمعان في القدرة على الحركة والتحليق، دون تعد على سمة كل فن وخصائصه مهما يتجاوران على دروب الأدب الوسيع.