يحتفظ المسجد الأقصى بمكانة عزيزة في قلوب العرب والمسلمين، لما له من حضور ومكانة دينية واجتماعية وثقافية عامة، في الوقت نفسه، فضلاً عن احتفاظه بمجموعة من المباني التاريخية التي يمكن أن نقرأ عبرها ثقافة وحضارة مدينة القدس، لعل أبرزها مكتبة المسجد الأقصى التي ظلت تعرف باسم «المكتبة الختنية» حتى عام 1976، بعد أن أعادت دائرة الأوقاف الإسلامية ترميمها وفتحها، لا سيما أنها تعد من أكثر الأماكن المفعمة بالثقافة في المسجد الأقصى..

كما أنها تشكّل قبلة للباحثين والدارسين وعشاق الكلمة والمعرفة الذين تلقفوا بلهفة كبيرة خبر رقمنة ما تتضمنه من كتب ومخطوطات الذي بثته وكالات الأنباء العالمية أخيراً، وأشارت فيه إلى أن مكتبة الأقصى بدأت مشروعاً لإعداد نسخ رقمية لمقتنياتها من المخطوطات العربية القديمة، لإتاحة الفرصة أمام الباحثين حول العالم، للاطلاع عليها إلكترونياً عبر الإنترنت والاستفادة منها.

وذكرت أن إدارة المكتبة أطلقت مشروعاً لنسخ 2000 مخطوط رقمياً، بهدف الانتهاء من وضعها على الشبكة المعلوماتية بحلول 2015، وأشارت الوكالات إلى أن المكتبة القائمة حالياً بالقرب من المسجد الأقصى في القدس الشرقية، تضم 130 ألف كتاب، منها 4000 مخطوط، بعضها يرجع إلى قبل نحو 1000 عام.

ملفات وتاريخ عريق

بلا شك، إن خبر رقمنة مخطوطات مكتبة المسجد الأقصى، إنما يشكّل مفتاحاً للكثير من الدارسين والباحثين لزيارة مكتبة الأقصى والاستفادة مما تحتويه من كنوز، لا سيما أن الكثير منهم لا يمكنهم زيارتها، لكونها تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى القدس والمسجد الأقصى..

فضلاً عن أن هذا الخبر كان كفيلاً بأن يفتح عيوننا على ملفات هذه المكتبة التي تحتفظ بتاريخ موغل في القدم، لنستكشف ما تحتويه أروقتها من مخطوطات وكتب قيمة، كما نستكشف في الوقت نفسه تاريخها العريق، إذ تشير بعض النصوص التاريخية التي تتعلق بهذه المكتبة إلى أن نشأتها تعود إلى القرنين الثالث والرابع الهجريين على التوالي..

ومن ذلك نص ذكره ابن عبد ربه في كتابه «العقد الفريد»، «وفيه ـ أي في المسجد الأقصى ـ سبعون مصحفاً، وفيه من الكبار التي في الورقة منها جلد ستة مصاحف على كراس تجعل فيها».

أقدم المكتبات

إشارة ابن عبد ربه هذه تقودنا إلى أن مكتبة المسجد الأقصى تعد واحدة من أقدم مكتبات المساجد المنتشرة في مدن فلسطين، وأنها استفادت كثيراً من مكانة المسجد الأقصى الذي ظل طوال الوقت مركزاً للحياة الفكرية ومدرسة لتدريس العلوم، سواء كانت دينية أم دنيوية.

وتوضح المصادر أن مكتبة المسجد الأقصى هي عبارة عن نتوء يبرز عن مبنى المسجد ويمتد إلى خارجه، من الجهة الجنوبية. وأن صلاح الدين الأيوبي بناها بهدف إغلاق باب النبي لصد خطر الصليبيين عن المكان، وأنها كانت في بداياتها مدرسة شرعية تدرّس العلوم الإسلامية، وسميت بـ«الختنية» نسبة إلى عبد الله الختني، أحد الرجال الأفاضل المارين على هذه المدرسة..

وبقيت تلعب دوراً مهماً في الحياة الثقافية حتى أواخر الحكم العثماني، لتشهد إهمالاً وتراخياً كبيراً تحولت معه المكتبة إلى مخزن للقناديل والأسرجة التي كان يضاء بها المسجد الأقصى. ويشار هنا، إلى أنه تبين الوثائق والمراجع التاريخية، أنه يرجع تاريخ أقدم مخطوط تقتنيه المكتبة، إلى القرن السادس الهجري، وهو للخطيب البغدادي المتوفى عام 463 هـ (1071 ميلادية).

وقف

ويبين تقرير أعده الشيخ حامد أبو طير، مدير المكتبة الحالي، أن صلاح الدين الأيوبي، أوكل وقفها إلى شيخ جليل مجاهد في زمانه يدعى الشيخ جلال أحمد بن أحمد بن محمد الشاش، وكتاب وقفها بتاريخ 18 ربيع الأول 587 هجري، والشيخ رجل من أهل التقوى، وهو أول من تولى مشيختها، إذ عنيت هذه المدرسة بتدريس الفقه والتصوف والأدب.

وحسب أبو طير، فإن المراجع والوثائق التاريخية تفيد بأنه كان لهذه المدرسة دور كبير في الحركة الفكرية في القدس، وتولى مشيختها والتدريس فيها عدد من العلماء، منهم الشيخ الختني الذي ترتبط «الزاوية الختنية» باسمه، التي زارها الرحالة المغربي ابن بطوطة في القرن الثامن، خلال زيارته الثامنة للقدس عام 749 هجري.

فترة ذهبية

شهد القرن السادس الهجري، طبقاً للمصادر التاريخية، تبلور ملامح جديدة للحركة المكتبية في فلسطين عامة، والقدس خاصة، إذ شهد عصر الأيوبيين والمماليك نهضة علمية كبيرة وحركة فكرية تمثلت في مظاهر متعددة، منها البدء في إنشاء المدارس..

وكثرة إنشاء المساجد وتعميرها في مختلف أنحاء البلاد، ما يشير إلى أن هذه الفترة تعد من أخصب فترات مكتبة المسجد الأقصى، التي شهدت أيضاً، اهتماماً ملحوظاً في بداية الحكم العثماني، بالقدس والمسجد الأقصى الذي كان قبلة العلماء والتدريس، ليتراجع بعدها، نتيجة للوهن الذي أصاب الدولة العثمانية، مع ارتفاع وتيرة الغزو الاستعماري الأوروبي السياسي والاقتصادي للقدس والمنطقة، ما انعكس سلباً على القدس ومكتبة المسجد الأقصى،

عناية كبيرة

أولى المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، خلال عقد العشرينيات من القرن الماضي، عناية كبيرة لما تتضمنه المكتبة الختنية (مكتبة المسجد الأقصى)، من كتب ومخطوطات قديمة، فجمعها في خزائن المسجد الأقصى، وأطلق عليها اسم «دار كتب المسجد الأقصى» التي ظلت مغلقة مدة خمسة عقود تقريباً، حتى ارتأت دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية في القدس عام 1976 إحياءها من جديد..

وجمعت الكتب التي كانت مخزنة في المتحف الإسلامي، تحت اسم مجموعة مستقلة: دار كتب المسجد الأقصى التي رفدتها بعض الأسر المقدسية بأعداد كبيرة من الكتب تبرعت بها، لتجمع بعد ذلك في مبنى المدرسة الأشرفية التي بنيت في عهد السلطان قايتباي سنة 886 هجرية (1475 ميلادية). ونقلت هذه المقتنيات إلى مقر المكتبة نفسه الموجود في الوقت الحاضر، تحت مسماها الحالي.

توثيق

ولتوثيق ما تتضمنه مكتبة المسجد الأقصى من كنوز معرفيه ومخطوطات، أقدم الشيخ خضر إبراهيم سلامة الذي تولى أمانتها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، على إعداد فهرس من ثلاثة أجزاء يحمل عنوان «فهرس مخطوطات مكتبة المسجد الأقصى»، صدر الجزء الأول منه في القدس عن دائرة الأوقاف الإسلامية عام 1980، وأعيدت طباعته في 1983..

وهو العام الذي صدر فيه الجزء الثاني عن المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية التابع لمؤسسة آل البيت في الأردن، بينما صدر الثالث عن مؤسسة الفرقان في لندن..

وأشار الشيخ خضر إبراهيم سلامة في مقدمته إلى أن مكتبات القدس لم تتأسس بشكل منظم إلا في بدايات القرن العشرين، وأن مكتبة المسجد الأقصى تضم مجموعتين أساسيتين: أولاً: بقايا مخطوطات الشيخ محمد الجليلي، مفتي الشافعية، وعددها نحو 600 مخطوطة. ثانياً: بقايا مخطوطات دار كتب المسجد الأقصى، وعددها بحسب ما ينتهي به الجزء الثالث 658 عنواناً.

كما شهدت منذ 1998 حتى الوقت الحالي، نمواً واضحاً في عدد كتبها.

صعوبات

تواجه مكتبة المسجد الأقصى، العديد من الصعوبات والتحديات، ففضلاً عن وقوعها تحت الاحتلال الذي يمنع الفلسطينيين من دخول القدس وزيارة المسجد الأقصى..

وما يقوم به من حفريات وإنشاءات تهدد سلامة المكان، فالمكتبة، وبحسب ما قاله مديرها الحالي لوكالة رويترز، تعاني قلة عدد روادها الذين يقتصرون على أعداد خجولة من محبي المطالعة والمعرفة، وأضاف: لا يستطيع سكان المناطق المجاورة للأقصى، خلف جدار الفصل العنصري، كطلاب جامعة القدس البعيدة نحو ثلاثة كيلومترات عن المكتبة، زيارتها والاستفادة من ثروتها المعلوماتية.

مخطوطات عربية وأجنبية تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر

 أكد الدكتور حامد الشافعي دياب، في دراسة له نشرها في 1998 تحت عنوان «مكتبة المسجد الأقصى ماضيها وحاضرها»، أن عدد مقتنيات المكتبة من الكتب العربية بلغ (حتى عام 1998) 20350 كتاباً، وقدر مجموع الكتب المطبوعة بالإنجليزية بنحو 400 كتاب، ترجع طباعة بعضها إلى عام 1820.

أما الكتب الفرنسية فقدرت بنحو 500 كتاب، ويرجع بعضها إلى أوائل القرن 19، وهي تحتوي على مجموعة قيمة من كتب الآثار الإسلامية، ومجموعة أخرى عن الأخشاب والحجر والرخام والمصابيح والقناني الزجاجية والنحاسيات التي صنعت في العصر الأيوبي..

وأشار دياب إلى أن المكتبة ضمت أيضاً كتباً باللغة التركية بلغ مجموعها 1000 كتاب، وهي مطبوعة بالحروف العربية، لافتاً إلى أن جميع مخطوطات المكتبة مكتوبة على «الكاغد»، وتتناول موضوعات شتى، ومصادرها: مخطوطات الشيخ محمد الخليلي، مخطوطات الشيخ خليل الخالدي التي نقلت إليها من مكتبتيهما عام 1978. وتقدر مخطوطات الأولى بـ350 مخطوطة، أما الثانية فبـ100 مخطوطة.

أعمال ترميم مستمرة

 اهتمت إدارة المكتبة بمشروعات المحافظة عليها، قدر الإمكان، ذلك عبر تزويدها بما تحتاج إليه من كتب حديثه، إضافة إلى ترميمها بين الوقت والآخر، إذ قامت في 1998 بإعادة ترميمها من حيث إصلاح جدرانها وكسوة أرضيتها، وتجديد شبكة الكهرباء فيها، وخصصت فيها مكاناً لتحفيظ القرآن الكريم، إلى جانب تزويدها بما تحتاج إليه من تقنيات حديثة..

كما بادرت أيضاً مؤسسة التعاون الأهلية إلى ترميمها في 2004، بتكلفة وصلت إلى 278 ألف دولار، وشملت مرحلة المشروع الأولى ترميم العناصر المعمارية التاريخية، وتطوير شبكات الخدمات وتحديثها، وتأهيل السطح، وشملت المرحلة الثانية تجهيز وتأثيث المكتبة بما يتناسب مع الاحتياجات الحديثة للمكتبات.