يقول الدكتور أكرم قانصو، مؤلف كتاب «التصوير الشعبي العربي»، وهو من مواليد لبنان 1948 وفنان تشكيلي وتربوي وصحافي وباحث وأستاذ جامعي ولديه مجموعة من الكتب المنشورة منها: مبادئ التربيّة الفنيّة، واللوحة السورياليّة، والتصوير الشعبي العربي، وقد حاز على جائزة الكتاب العربي والدولي السادس والثلاثين في بيروت، إنه منذ الصغر، كان يشاهد في بيوت الناس، صوراً مطبوعة على الورق، أو مرسومة تحت الزجاج، تزين الجدران والحوانيت والمقاهي الشعبيّة.

كما لاحظ وجود رسوم باللونين الكحلي والأخضر الغامق، منفذة على وجوه البدو وأيديهم، ما دفعه للتساؤل عن تلك الرسوم والصور، والجواب كان واحداً عند الناس: هذا عنترة وعبلة، وذاك الزير سالم، وأبو زيد الهلالي. أو هذه مناظر الحج، والكعبة المشرفة، وتلك رسوم ضد الحسد وإصابة العين.

والبعض لجلب الخير، وأخرى للحظ السعيد. كما سمع عن صندوق العجائب، والحكواتي، ومسرح خيال الظل، وأشياء كثيرة مشابهة شاهدها في أكثر من بلد عربي. مر الزمن، وتبدلت تلك الأحوال، واضمحلت تلك الرسوم، وندرت تلك الأشياء لتحل محلها صور المطربين والمشاهير من كل نوع وجنس، وظهر التلفزيون والسينما واختفى صندوق العجائب والحكواتي.

الاهتمام بالتراث

يشير قانصو إلى انه عندما تخرج من معهد الفنون الجميلة، عرف أن وراء تلك التصاوير حقيقة مهمة يجب البحث عنها.

حقيقة لها مدلولاتها الفكريّة والاجتماعيّة والفنيّة، ومعاني مرتبطة مباشرة بعادات الناس وتقاليدها وطقوسها، فباشر البحث والاستقصاء وجمع ما تيسر من الرسوم والمعلومات، محاولاً قراءة أشكالها والعناصر المؤلفة لها، إلى أن نضجت الأفكار، وتبلورت الدوافع الذاتيّة والموضوعيّة، فقرر أن يقوم ببحثه «التصوير الشعبي العربي»، الذي صدر في كتاب ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتيّة.

مدفوعاً بجملة من الأسباب منها: قلة الدراسات التحليليّة والجماليّة للرسوم العربيّة، لأن معظم الأبحاث التي كتبت عن الموضوع كانت وصفيّة استطلاعيّة، يغلب عليها الطابع الصحافي، اهتمت فقط بالناحية الجغرافيّة، والقيمة التاريخيّة للعمل، دون التعمق في جوهره الإنساني والجمالي، إضافة إلى أن تاريخ الفن لم يتعرض لدراسة هذا النوع من التشكيل، منذ بداية العصور حتى يومنا هذا.

بناء ثقافي

ومن الأسباب أيضاً، المساهمة في عملية التأصيل التي يشهدها الوطن العربي وحماية هذا الفن من الاندثار والزوال. فالتراث الشعبي يشكّل جانباً مهماً من الثقافة الإنسانيّة، وعنصراً أساساً في هيكليّة البناء الثقافي، وبالتالي يحمل تطلعات أجيال، ويختصر تاريخ أمة.

لذلك شهد الوطن العربي في السنوات الأخيرة، مجموعة من الدراسات حول الفنون الشعبيّة، وعلت فيه أصوات باسم جمعيات متخصصة، ومراكز بحوث تدعو للاهتمام بالتراث الشعبي ودراسة مظاهره وأثاره، خاصة بعد الإحساس بأن الحياة الحديثة تهدد الموروث من العادات والتقاليد، الأمر الذي ينبغي معه الحفاظ على عنصر الاستمرار في التراث الإنساني، كما أن ذيوع الروح القوميّة دعا إلى أن تزيد كل أمة من ارتباطها بتراثها، وبالتالي فإن العلوم الاجتماعيّة المتقدمة، لفتت الأنظار إلى ضرورة دراسة حياة الإنسا ن العادي وتقاليده وفنونه.

فنون عربيّة

يشير الباحث قانصو إلى أن الفنون الشعبيّة حظيت في كثير من أقطار الوطن العربي بالاهتمام والتقدير، حيث أقيم لتجميعها ودراستها المراكز والمجلات المتخصصة، وعقدت من أجلها الندوات والمؤتمرات المتعددة.

يحدد قانصو لبحثه ثلاثة أطر: الأول تاريخي يمتد من أوائل القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، وذلك لأهمية هذه المرحلة وغناها بالرسوم والفنون. الثاني جغرافي يتناول نماذج من الرسوم السوريّة والمصريّة والتونسيّة. والثالث تقني يحصر الدراسة باللوحة التشكيليّة الشعبيّة التي لها إطار وتأليف، وهي عادة مرسومة تحت الزجاج، أو مطبوعة على الورق.

مخيلة شعبية

ومن أجل حل إشكالية هذا البحث، طرح الباحث قانصو السؤال التالي: هل كان للتصوير الشعبي العربي طابع خاص ومستقل؟ أم كان متقارباً مع بعض الفنون التي عايشها؟ وما الأوجه ذات الطابع الخاص؟ وما الأوجه المتقاربة مع غيرها؟

للجواب عن جملة هذه التساؤلات، كان، لابد من قراءة اللوحة وربطها بحياة الناس، ونظمهم الاجتماعيّة، وحل رموزها وقيمها وتبيان فيما إذا كان التصوير الشعبي من نتاج المخيّلة الشعبيّة العربيّة أم جاء تحريفاً لفنون وافدة. وهل كان فعلاً صادقاً مع تطلعات وذوق الجماعة التي يمثلها؟ وهل تكمن خصائص التصوير الشعبي في الموضوع؟ أم في التأليف؟ أم في المحتوى؟

في الوقت نفسه، كان لا بد من استخلاص النقاط القريبة من فنون أخرى تعرف عليها العرب خلال انفتاحهم على الغير، وكان لا بد من إجراء المقارنة بينها. من ذلك مقارنة التصوير الشعبي بالتصوير الإسلامي.

الماهيّة والتاريخ

يرى الباحث قانصو أن التصوير الشعبي العربي فن فطري يخضع لتقاليد متوارثة عبر الأجيال، يقوم به أناس من عامة الشعب، يتمتعون بثقافة عادية. وهو مؤلف من مجموعة خطوط وألوان وأشكال مرسومة بمادة سهلة وميسرة، غنية بالرموز والدلالات، ويختصر تاريخ أمة بما لها من تقاليد وعادات، ويعبّر عن روح الجماعة، ويتماشى مع ذوقها.

فن أفرزته الثقافة مع الأيام، يمارسه الناس إبداعاً وتذوقاً، ويكون مجهول الهوية والتاريخ أحياناً، لأنه ملك الجماعة، وهو وظيفي، غايته إما جماليّة بقصد تزيين البيوت والحوانيت والأواني والجسد، وإما علاجيّة بقصد الاستشفاء من بعض الأمراض، وإما سريّة بقصد طرد الأرواح الشريرة.

وتجنب إصابة العين، وإما دينيّة بقصد العبادة والتقوى، وتدور مواضيعه دائماً حول السير الشعبيّة والدين والتاريخ والزخرفة، وله علاقة وثيقة بالفنون الشعبيّة والفلكلور والرسوم البدائيّة والفن الفطري، وتاريخه مرتبط بتاريخ الإنسان الشعبي العربي.

أما الخامات والمواد التي استعملت في تنفيذ التصوير الشعبي فقد حُصل عليها من البيئة وفق ثلاثة شروط هي: أن تكون رخيصة تتناسب وإمكانات الرسام الماديّة، وأن تكون ميسرة وموجودة بوفرة، وأن تكون قادرة على خدمة الغاية والهدف منها. أما أهم المصادر الثقافيّة للرسام الشعبي فهي شفوية متداخلة بين الناس، أو مدونة ومؤرشفة.

عناصر فنية

أما عناصر اللوحة الشعبيّة فهي إما آدميّة يتقدمها البطل على صورة فارس يمتطي جواده، أو على صورة رجل دين مؤمن ومتواضع، يعتمر على رأسه عمامة، ويرتدي عباءة خالية من الزخارف والتبرج، يحمل في يده مسبحة، أو قد يبدو البطل ملتحياً وذا شوارب طويلة.

أما البطلة الأنثى فتظهر في بعض الأحيان مرافقة للبطل في معاركه، أو داخل هودجها، وهي في العادة ذات شعر طويل، وحاجبين متصلين، مزينة بالعقود والحلي والجواهر والألبسة المزخرفة، وعادةً ما يحُيط بالبطل عناصر ثانوية يلجأ الرسام الشعبي إلى تصغير حجمها في اللوحة لصالح حجم البطل، بغية التدليل على أهميته، وقد يُشير إلى ذلك من خلال نوعيّة الثياب، وهو يرسم البطل دوماً معتلياً صهوة جواده، أما الحرس والخدم فيرسمهم يتبعون القائد وهم مشاة على الأرض.

أما العناصر الحيوانيّة التي وردت كثيراً في التصوير الشعبي العربي فأهمها الحصان والجمل، وهما عنصران معروفان في الوسط العربي والصحراوي.

مقاربة عربيّة أوروبيّة

يقول الباحث قانصو إن أوروبا هي أول من اهتم بدراسة الفلكلور في العمارة والأزياء والتصوير والنسيج والموسيقى والمسرح وينتهي إلى المقاربات التالية بين الرسوم الشعبيّة العربيّة والأوروبيّة:

1 - اتسامهما بالعفويّة، والتقاءهما في الوظيفة التزيينيّة والدينيّة، وتماشيهما مع الذوق العام.

2 - التشابه الكبير في الخامات والمواد المستعملة في تنفيذها.

3 - وحدة المواضيع وتمحورها حول الزخارف والقصص والدين والتاريخ.

4 - قلة الرموز في الرسم الشعبي الأوروبي مقارنة بالعربي.

أسرار

حاول عدد من الفنانين العرب منذ العام 1945 التعرف على أسرار فن التصوير الشعبي، فاتخذوا من رسوم الوشم، والسير الشعبيّة، والطلاسم، والتعاويذ، والخط العربي، موضوعات لأعمالهم الفنيّة التشكيليّة، واعتبر هؤلاء أن هذا هو الفن الأصيل، فأخذوا منه وطوّروه، ومن أهم رواد هذا الاتجاه التشكيلي اللبناني رفيق شرف، والتشكيلي المصري سعد كامل.

ميزات

خصائص ومقومات الرسوم الشعبية

يُشير كتاب «التصوير الشعبي العربي» إلى أن الرسوم الشعبيّة العربيّة تتكوّن من مجموعة أشكال ووحدات، يرتبط بعضها ببعض على نحو يؤدي إلى التماسك في وحدة شاملة، وهذا من شأنه أن يوفر الحيويّة الجماليّة للبناء والتأليف، ومن أهم وأبرز خصائص ومقومات هذه الرسوم، عدم تقيدها بقواعد المنظور والتشريح، وجمود الحركة والتعبير، وغياب المشهد الطبيعي.

وحشد المشاهد، والخروج عن الإطار، ووجود هالة حول رؤوس الأئمة والقديسين، وكراهية الفراغ، والبعد عن التفاصيل، وتحريف النسب والمقاييس، والتوازن في التأليف، والتسطيح في استخدام الألوان، واعتماد الخطوط اللينة، وبروز سمة كاريكاتيريّة، والتعبير الطفولي العفوي.

أما المؤثرات البيئيّة في اللوحة الشعبيّة فيمكن حصرها بالعادات والتقاليد والمؤثرات الاجتماعيّة والبيئيّة، وهي كثيرة. جملة هذه الخصائص والمقومات الشكليّة والمضمونيّة التي حملها التصوير الشعبي، شجّع الكثير من الفنانين العرب المعاصرين على استلهام هذا التراث، والاستفادة من قيمه الفنيّة والجماليّة.

موضوعات

مصادر قصص ورمزيّة الألوان ودلالاتها

يحدد كتاب «التصوير الشعبي العربي» مصادر موضوعات التصوير الشعبي العربي بالسير الشعبيّة، كسيرة عنترة وعبلة، وبني هلال، والزير سالم، والظاهر بيبرس، والموضوعات الدينيّة الإسلاميّة المستوحاة من القرآن الكريم، وقصص الأنبياء والصحابة، وآدم وحواء، وسفينة نوح، وإبراهيم الخليل، والخضر، والنبي سليمان، وقصة يوسف، والإسراء والمعراج..وغيرها. أما الموضوعات الدينيّة المسيحيّة فقد أخذت طريقها إلى فن الإيقونات.

كما أخذ الرسام الشعبي موضوعات فنه من الأساطير والتاريخ، وذلك عبر أسلوب اعتمد فيه على الرمز المحمّل بقيم المجتمع الثقافيّة والفكريّة، وهذا الرمز قد يكون لحيوان أو نبات أو مجرد خطوط هندسية وزخارف ومصطلحات أخرى لها معنى وقيمة منتشرة بين الجماعة، وتستمر كرمز متفق عليه.

من هذه الرموز: النخيل الذي يرمز للخصب، والأسد رمز القوة، والأفعى رمز الشر، والسيف رمز البطولة، والكف والعين ضد الحسد، والسمكة رمز التكاثر، والعصفور الأخضر رمز الخير، واليمامة رمز السلام.. إلخ.