أشرف الرسام بيكار الذي اشتهر بأعماله ضمن «دار المعارف» بشكل كبير، على سلسلة تصدرها الدار: «الكتاب العجيب» مخصصة للأطفال، وذلك في بداية الستينيات من القرن الـ20. وكانت تعتمد على قصة يكتبها ويرسمها أحد الفنانين من تلاميذه (بيكار) بالفنون الجميلة، ومنهم:
جورج البهجوري وإيهاب شاكر ومحيي اللباد ويوسف فرنسيس وفايزة نجيب. وكانت هذه الإصدارات التي قدمتها دار المعارف بداية لظهور فنانين متخصصين في أدب الأطفال. وتوالت المحاولات على أيدي العديد من فنانينا الكبار، من أمثال:
حجازي ومصطفى حسين وحلمي التوني وبهجت، وأصبح كل منهم أستاذاً ومرجعاً في عالم الطفولة، وهكذا كانت دار المعارف مدرسة أولى في فن كتاب الطفل، ولكنها تراجعت بسبب حيرتها بين الصحافة والثقافة.
أحدثت المجلات العلمية والفكرية المتخصصة التي حققت دار المعارف قصب السبق في إطلاقها، ثورة حقيقية في المجالات تلك ضمن العالم العربي، ومن بينها مجلة «علم النفس» المتخصصة في الدراسات النفسية التي أصدرتها الدار في عام 1945. وكان يرأسها الدكتور مصطفى زيور، أكبر أساتذة علم النفس. كما أصدرت في عام 1948 مجلة «التربية».
وكان رئيس تحريرها إسماعيل القباني الذي أصبح بعد ذلك وزيراً للتربية والتعليم.
وليس من أبناء جيل الخمسينيات من القرن الماضي في مصر والعالم العربي من لا يعرف مجلة «سندباد» التي أصدرتها دار المعارف عام 1952 وانتشرت انتشاراً كبيراً بين الأطفال في جميع البلاد العربية، وساعدتهم على التعبير عن أفكارهم بلغة عربية سليمة، وغرست فيهم أنبل المعاني والقيم الأخلاقية والدينية والوطنية، وكان رئيس تحريرها محمد سعيد العريان.
محمد سيد بركة
تعـد دار المعارف من أعرق منارات الفكر والحضارة والتراث في العالم العربي، حيث أسسها في مصر عام 1890م اللبناني نجيب متري، وتولى إداراتها من بعده نجله شفيق متري، إلى أن جرى تأميمها عام 1963م مع الكثير من المنشآت العامة، فأصبحت مؤسسة صحافية قومية بسبب مجلة «أكتوبر» التي ألحقت بها.
واللافت أنه لا تزال دار المعارف تؤدي دورها التنويري في مضمون الثقافة العربية بجدارة وتميز، عن طريق 21 فرعاً لها، منتشرة في أنحاء مصر، من أسوان إلى العريش، كما تقدم خدماتها الثقافية لأبناء الوطن العربي عن طريق موزعيها المنتشرين في الدول العربية، وتتابع الدار مشوار عطائها، محققة، منذ قرن وربع، تنمية نوعية في مضمون الثقافة والمعرفة والنشر عربياً.
قصة البدايات
جاء نجيب متري إلى مصر قادماً من لبنان، وكان قد تعلم في بيروت فن الطباعة وأصبح من المحترفين، إذ استدعاه عزيز زيادة ناشر صحيفة «المحروسة» إلى الإسكندرية في عام 1884م للعمل مديراً لمطبعة الصحيفة، واستمر في العمل ست سنوات، ثم انتقل بعدها إلى القاهرة، وقرر أن ينشئ مكتبة ومطبعة، تحقيقاً لحلم كان يراوده، فكانت مطبعة المعارف التي صارت فيما بعد «دار المعارف».
شراكة
وفي سنة 1890، تشارك نجيب متري مع جرجي زيدان في مطبعة الهلال، لكنهما سرعان ما ألغيا الشراكة، فأسس الثاني مكتبة الهلال، وبدأ في إصدار مجلة «الهلال»، فيما أنشأ نجيب متري مطبعة المعارف.
في البداية، أسّس نجيب متري مطبعة المعارف مطبعةً تجاريةً في الطابق الأرضي من منزل كبير كان يحمل رقم 70 شارع الفجالة في القاهرة (اشتهر آنذاك بشارع المطابع)، وكان هذا المبنى ملكاً لخليل الزهار، واشتراه السيد عبد الرحيم الدمرداش باشا. وفي سنة 1910، حدث تطوير لدار المعارف للطباعة، تمثل بأنها أصبحت دار المعارف للنشر.
وحدث ذلك بعد استئجار مكان آخر ضمن المنزل السابق نفسه، حيث جعله متري مكتبة دار المعارف. وفي 1953م، تغير ترقيم العقارات بشارع الفجالة، فأصبحت تحمل رقمها الحالي: رقم 9 شارع الفجالة، وهو حالياً أحد فروع دار المعارف.
نقلة وتطور
في ظل وخضم زيادة أعمال نشر الكتب ضمن دار المعارف، آلت الأمور إلى شفيق، نجل نجيب متري، إذ انتقل إلى دار جديدة شيدها على كورنيش النيل، واستورد مطابع حديثة، وجعل منها أكبر دار للنشر في العالم العربي، وذلك في 1 مارس 1950. وكانت آنذاك في العقار 5 شارع ماسبيرو.
وفيما بعد، تغير اسم الشارع ورقم العقار، ليصبحا باسمها الحالي: دار المعارف، وهو رقم 1119 - طريق كورنيش النيل، ويقع حالياً على مقربة من ميدان عبد المنعم رياض، القريب من ميدان التحرير، ثم بني فيما بعد ملحق جانبي لهذا المقر الرئيس.
إصدارات قيمة
أثرت دار المعارف المكتبة العربية في النشر، إذ دأبت الدار على تقديم كل جديد في شتى المجالات الأدبية والثقافية والعلمية وكتب الأطفال والتراث، بالتعاون مع عمالقة وكبار المؤلفين والمحققين والمترجمين، أمثال: طه حسين وعباس العقاد وشوقي ضيف وعائشة عبد الرحمن وكامل الكيلاني ومحمد حسين هيكل ومحمد سعيد العريان وعادل الغضبان..
وعلي الجارم وعبد الرحمن الرافعي وخالد محمد خالد ومصطفى محمود، إضافة إلى: عبد الحليم محمود وعبد الحليم الجندي وتوفيق الحكيم والمازني ومحمد مندور وإبراهيم ناجي وأحمد حسن الزيات وأحمد مستجير ومصطفى محمود وأنيس منصور ورجب البنا.
ويسجل لدار المعارف كونها الدار الوحيدة التي سمحت لكل الأطياف والألوان السياسية النشر في مطابعها، وذلك لكتّاب من مختلف التيارات والجهات: الأصولية والسلفية والماركسية والشيوعية.
وأنشأت دار المعارف أول سلسلة ثقافية شعبية عربية، هي سلسلة «اقرأ»، التي صدر أول عدد منها في يناير 1943، وكان العدد الأول كتاب «أحلام شهرزاد» لطه حسين، ولا تزال هذه السلسلة تصدر إلى الآن. ولا أظن أن مثقفاً في العالم العربي لم يحرص على متابعة سلسلة «اقرأ» التي اختار اسمها الأديب الكبير الراحل أحمد أمين، لتكون سلسلة شعبية أنيقة ورخيصة الثمن تصدر شهرياً..
ونشرت لكبار الكتّاب في مصر والعالم العربي، مثل: طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم، الدكتور حسين فوزي، محمد فريد أبو حديد، الدكتور شوقي ضيف، الدكتور عبد العزيز كامل، الدكتور حسين مؤنس، علي الجارم، إسحاق موسى الحسيني، سامي الدهان، وغيرهم ممن لا يمكن حصرهم في هذا الحيز المحدود. وفي عام 1951، بدأت دار المعارف في نشر سلسلة نوابغ الفكر العربي التي استهلها عباس محمود العقاد بكتاب عن ابن رشد.
وذكر وديع فلسطين، في كتابه الموسوعي المهم عن أعلام العصر، أن شفيق متري، أحد أصحاب دار المعارف، قال له إنه كان يصدر كتباً بما قيمته مليونان من الجنيهات سنوياً، في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي..
وهو ما يساوي، حالياً، في أضعف التقديرات، مئتي مليون جنيه مصري على الأقل، وذلك فضلاً عما كانت دار المعارف، مع كتبها المنتشرة في كل مكان في هذا العالم، تكسبه من تقدير لاسم مصر، ورفعة لصورتها الثقافية والحضارية، وتأكيد لما كانت مصر تقوم به من قيادة حياة فكرية جديدة تواجه العصر وتلتقي معه، وتحمل العقل العربي إلى النور، ذلك بعد أن كان يعيش في ظلام شامل كبير.
«الكتاب» وعادل الغضبان
دخلت دار المعارف ميدان إصدار المجلات مبكراً، ولكنها اقتصرت في ذلك على مجالها الأصلي، وهو الثقافة، فأصدرت الدار مجلة ثقافية شهرية، هي مجلة «الكتاب»، وصدر العدد الأول من المجلة في نوفمبر سنة 1945، أما عددها الأخير فصدر في يونيو سنة 1953، أي ظلت تصدر نحو ثماني سنوات.
وكانت هذه المجلة آية فريدة بين المجلات الثقافية العربية في صورتها الجميلة وذوقها الرفيع وتنوعها الثقافي الواسع. واهتمت هذه المجلة بالفن التشكيلي العالمي، وحرصت على نشر لوحات ملونة من روائع الإبداع الإنساني في هذا المجال..
كذلك حرصت «الكتاب» على الجمع بين الثقافة العصرية والتراث العربي، وكانت هذه المجلة البديعة تمثل جامعة عربية ثقافية، فكانت تنشر في أعدادها الشهرية مقالات ودراسات وقصصاً وقصائد لمختلف الأقلام من مصر وسائر أنحاء الوطن العربي، ومن يراجع أعداد هذه المجلة يشم فيها عطر العروبة، ويشهد مدى تركيزها وعمق دعواتها وآرائها النوعية في كون العرب في العقل والوجدان هم أمة واحدة، وإن تعددت الأقطار وتنوعت البلدان واشتدت ضربات الأعداء.
كان وراء هذا النشاط الثقافي المتميز بالعمق والذوق والحس القومي في دار المعارف، خاصة منذ نحو سنة 1940، رجل نابغ نابه جمع بين الموهبة والثقافة الرفيعة والأخلاق الصافية العالية والقدرة الإدارية الحازمة الدقيقة، وهو الأديب عادل الغضبان (1908 ـ 1972)..
وبفضل كل هذه الصفات الطيبة التي اجتمعت في شخص الغضبان، كسب ثقة صاحب الدار شفيق متري الذي اعتمد عليه، وأتاح له الفرصة الكاملة ليعمل ويبدع، وكان الغضبان رئيساً لتحرير مجلة «الكتاب»، ورئيساً لتحرير سلسلة «اقرأ»، والحقيقة أنه كان رئيساً لتحرير دار المعارف كلها.
وعادل الغضبان من أصل سوري، من مدينة حلب، وهو مسيحي، وكان نادرة النوادر في حبه وعشقه للثقافة العربية الإسلامية ومعرفته بها ودفاعه المخلص الدائم عنها.
ثقافة الطفل
لم يقتصر دور دار المعارف على تشكيل ثقافة الكبار وحقولها، على اتساع الوطن العربي بكامله، فإسهامها الأكبر والأكثر تأثيراً كان في ريادتها ـ بلا منافس ـ ضمن حقل فن كتاب الطفل الذي تضافرت فيه الكلمة مع الصورة، عن طريق عشرات http://newspress/newspress/backup/files/images/2015/09/14/1686815.jpg?tmp=1444219566السلاسل التي تربت عليها الأجيال..
بدءاً من الأربعينيات في القرن الماضي، وليس من قبيل المصادفة أن تصدر دار المعارف سلسلة «المكتبة الخضراء» التي تعد بمنزلة جنة أطفال الوطن العربي في عوالم القراءة، وكانت حتى وقت قريب الأعلى توزيعاً بين كتب الأطفال في العالم العربي..
وهذه السلسلة هي مجموعة من روائع القصص التي تتألق بالخيال والجمال لناشئة الأقطار العربية، إذ يجدون فيها ما يناسب خيالهم ويساير أرواحهم وتطلعاتهم، في إطار من التعبير الجيد والحروف المشكولة، واعتمدت هذه السلسلة على أشهر الكلاسيكيات في أدب الأطفال العالمي.
واختارت الدار من بدايتها أن تكون هذه السلسلة مصحوبة بلوحات للرسامة النمساوية المبدعة ستيلا، وكانت مقيمة في مصر، إذ قدمت في لوحاتها معادلاً تعبيرياً جمالياً لقيمة أدب الطفل الكلاسيكي العالمي،.
وكان شفيق متري، صاحب دار المعارف، مستنيراً، ويحوز فهماً دقيقاً للبيئة العربية في مصر وبقية العالم العربي، فأصدر العديد من السلاسل الدينية للأطفال، من بينها مجموعة «قصص الأنبياء» بإشراف محمد أحمد برانق، وتميزت هذه السلسلة بأسلوب سهل ممتع، وإخراج جميل، وخلوّ تام من الشوائب.
ولا شك أن مجموعة «ألف ليلة وليلة» التي أصدرتها دار المعارف للناشئة في ثلاثة أجزاء، من إعداد حسن جوهر ومحمد أحمد برانق وأمين العطار، برسوم الفنانة النمساوية يونكرز، جسّدت إذكاء نوعياً وسحراً على سحر في الكلمة والصورة، واتسمت بحسن الصياغة التي تناسب عقول الشباب والناشئة.
وبظهور رائد أدب الأطفال، كامل كيلاني، تبنت دار المعارف نشر أجمل وأهم أعماله للأطفال والناشئة، في سلاسل متنوعة من القصص الفكاهية وقصص من ألف ليلة وليلة وقصص من شكسبير وأساطير العالم والقصص العلمية. وارتأى شفيق متري صاحب الدار أن يتوج هذه السلاسل برسوم لفنانين أجانب مقيمين في مصر في ذلك الوقت، مثل الفنان الأرمني ديك أو ديكران (في سلسلة القصص الفكاهية)، والفنان الإيطالي موريللي (في سلسلة قصص شكسبير).
1944
كانت بداية دخول الفنان بيكار إلي ميدان الرسم للأطفال، عهداً جديداً لفن الكتاب العربي، افتتحته وشرعت في خطوه دار المعارف، وكان ذلك سنة 1944، حين قدّمه زميله الفنان عبد القادر رزق إلى طه حسين الذي رشحه لرسم أحدث طبعات كتابه الشهير «الأيام»..
ومن يومها توثقت صلة بيكار بصاحب الدار شفيق متري الذي عهد إليه تصميم الكتب ورسومها الداخلية، كما توثقت صلة بيكار بكامل كيلاني، ومعه قدّم أول كتبه الملونة: علي بابا.. وغير ذاك، مثل: سلسلة «روضة الطفل» بإشراف أمينة السعيد وآخرين.
Ⅶمنارة فكرية وحضارية عريقة في العالم العربي أسسها في مصر اللبناني نجيب متري عام 1890م
Ⅶأمِّمت في 1963م مع الكثير من المنشآت العامة فأصبحت مؤسسة صحافية قومية
Ⅶ لا تزال تؤدي دورها التنويري الثقافي بجدارة وتميز عبر 21 فرعاً لها منتشرة في أنحاء مصر
Ⅶ أثرت المكتبة العربية بروائع ودراسات نوعية ودأبت على تقديم كل جديد في شتى المجالات
Ⅶ قدمت للقراء أعمال نخبة كتّاب بينهم: طه حسين والعقاد وشوقي ضيف وعائشة عبد الرحمن
Ⅶ يُسجل للدار كونها الوحيدة التي نشرت لمبدعين من الأطياف السياسية كافة دون قيود أو تحيز
المدرسة الأولى في حقل فنون ورسوم كتاب الطفل
ريادة في إطلاق المطبوعات المتخصصة مثل «علم النفس» و«سندباد»
صاحبة فضل كبير في نهضة وتطور ثقافة الطفل العربي