كطابور الصباح، تسير الكلمات بين ضفتي الشعر العمودي، بنظامٍ والتزامٍ كبيرين، لا مجال فيهما للفوضى والخروج عن الصف، ليتغنى كل بيت بأجمل ما جادت به قريحة الشعراء، وفق موسيقى منظومة بدقة وإيقاع جميل مملوء بالصور الشعرية التي تفتح آفاق الخيال.. وكطالب مشاكس، تخرج بعض القصائد عن النص والقالب تاركة المجال للمخيلة الخصبة لأخذها حيث تشاء(قصيدة النثر)، فلا بحور تَجُرُّها في طريقها، ولا قوافٍ تحدد وجهتها، لتترك العنان للصورة الشعرية، فهي القارب والمجداف لديها.
جدل كبير بين الشعراء يدور في كل لقاء ثقافي حول قصيدة النثر، فمنهم من ينظر إليها كإضافة كبيرة للشعر العربي، وفتح وانتصار يجب الوقوف عنده، ومنهم من يعتبرها أساءت له بتحررها من النكهة العربية للشعر العربي، المتمثلة في التفعيلة والوزن والقافية.
«بيان الكتب» التقى عدداً من الشعراء، على هامش مهرجان الشارقة للشعر العربي 14، ليستطلع آراءهم في قصيدة النثر وما يحيط بها ويوجه إليها من اتهامات، إذ أكدوا أنها فن إبداعي متفرد أساء له كل من استسهل كتابته، مشيرين إلى أن قوتها تكمن في إيقاعها الداخلي، الذي يعد البديل عن الوزن والبحور المعروفة في الشعر العمودي.
قواعد ضمنية
يوضح الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، أن قصيدة النثر لم تُسئ إلى الشعر. ويضيف: أساء لها الذين كتبوها بطريقة انتقصت من قيمتها، فإما كتبوها استسهالاً أو تحت تأثير الوافد المترجم، ولكن لا يمكن إنكار أن عمر قصيدة النثر أكبر من قصيدة التفعيلة، إلا أن ما تعرضت له من إساءة منعها من التحول إلى تيار كما حدث مع نظيرتها العمودية.
وعما إذا كان يستحق كاتب قصيدة النثر لقب شاعر، يقول: يستحق اللقب من كان شاعراً حقيقياً، وليس ثمة وسط بين مصطلح الشاعر وغير الشاعر.
ويتحدث أبو خالد عن قواعد قصيدة النثر: يجب أن نستنبط قواعد قصيدة النثر من مضمونها، وأن لا نُسقط عليها مقاييس النقد الغربي، كما جاء في أطروحات الناقدة والباحثة الفرنسية سوزان برنار، التي استنبطت قوانين تطور حركة قصيدة النثر في الشعر الغربي من داخل النص وليس من خارجه. أما نحن، وللأسف، لم نقدم حتى الآن دراسات جديرة بهذا الموضوع.
انفتاح
يرفع الشاعر السعودي جاسم الصحيح، شعار الانفتاح على جميع الأشكال الشعرية. ويشرح وجهة نظره: لا أعتقد أن قصيدة النثر أساءت إلى الشعر العربي، فهي، كما قال الشاعر الراحل محمود درويش«من أهم الفتوحات الشعرية التي حصلت في العقود الثلاثة الماضية». ويضيف الصحيح: هناك من يدّعون كتابة قصيدة النثر ولكنهم يكتبون ما يشبه الخواطر.
وهذا الأمر موجود أيضاً في القصيدة العمودية، فهناك من يكتب القصيدة العمودية، إلا أننا لا نرى فيما كتبه سوى النظم، وهو ليس من الشعر في شيء، وبالنسبة لي، فأنا أؤمن بالانفتاح على جميع الأشكال الشعرية، وأرى الشعرية أكثر اتساعا من الشكل.
وعما إذا كان لجوء البعض إلى قصيدة النثر استسهالاً، قال: الكثير ممن يكتبونها يستسهلون كتابتها، ولكنها ليست بالسهولة التي يتوقعون، إذ تتضمن قواعد وعناصر هامة يجب أخذها في عين الاعتبار، فهي مرتبطة بإيقاعنا الداخلي، وبالذائقة التي لا يمكن معها أن تُسجن داخل قوالب جامدة، من وزن وتفاعيل، فالذائقة شيء منفتح على الوجود ويحب الانطلاق، والشعر نهر الشاعر..
والجزء الشاعري فيه هو تلك الموجة التي تقفز خارج الضفتين، وتطيش لتخلق الحالة الشعرية، وليس الماء الذي يجري وسط الضفتين، تحده الأقواس من كل جانب.
أدوات
تستنكر الشاعرة الإماراتية الهنوف محمد قصور النظرة نحو قصيدة النثر، مؤكدة أنها لم تُسئ إلى الشعر، لا من قريب ولا من بعيد. وتتابع: النثر جزء من الشعر، وحين استمع للأنواع المختلفة من القصائد، أشكر الله كوني من شاعرات قصيدة النثر، ففي كل نوع من الشعر هناك الغث والسمين، والعبرة في الجودة وليس في نوع القصيدة.
وتذكر الهنوف أن كتابة القصيدة ترتبط بشكل مباشر بنفسية الشاعر وعقليته وحبه لكتابة نمط معين. وتقول في الخصوص: أنا شاعرة عوالمي هي قصيدة النثر، ولم ألجأ إلى كتابتها استسهالاً أو لكوني لا أتقن كتابة القصيدة العمودية..
ولكن مزاجي الداخلي أخذني نحوها بلا شعور، إذ أشعر بالحياة من خلال التجاوب مع هذا الشكل الشعري، رغم أني مستمعة ممتازة للشعر العامي، ولكني في المقابل لا أحب تجربة الكتابة فيه.. لذا، فالمسألة تكمن في أدوات معينة يميل إليها الشاعر وتأخذه نحوها.
وتؤكد الهنوف أن جودة قصيدة النثر تعتمد على الصورة أكثر من الإيقاع، لافتة إلى تصدر الصورة للمشهد الفني في قصيدة النثر. وتواصل: بعض شعراء القصيدة العمودية يتقنون الوزن والقافية، إلا أن الصورة معدومة تماماً في أشعارهم. لذا، فليس من الإنصاف أن نصدر أحكامنا على نوع من الشعر ونبخسه حقه فنصفق للآخر من دون وجه حق، فالمقارنة ظالمة، العبرة في الصورة الشعرية أولاً وأخيراً.
صورة ودهشة
يرى الشاعر اليمني عامر السعيدي، أنه يمكن التعامل مع قصيدة النثر كفنٍّ إبداعي إذا احتوت على الدهشة والصورة الشعرية البارزة. ويشرح رأيه في هذا الصدد: لو كانت مجرد صفٍّ من الكلمات الأنيقة، فإنها بذلك تتجرد من الشعر. وأنا أعتقد أن الشاعر الذي ينطلق من قصيدة النثر باتجاه الشعر العمودي لا يعد شاعراً.
فقصيدة النثر هي تطور للمرحلة الشعرية، يصل إليها الشاعر بعد تجربة طويلة، وبرأيي، هي أصعب من القصيدة العمودية، والمشكلة أن أي متطفل على الشعر يلجأ إلى رص بعض الكلمات ويحسبها على قصيدة النثر..
ويظن كثيرون أنها سهلة لعدم التزامها بالتفعيلة. ويوضح السعيدي أن هناك فرقا بين قصيدة التفعيلة التي تحتكم إلى ميزان الشعر، وقصيدة النثر التي لا علاقة لها بالموسيقى. ويضيف: على الرغم من ذلك، لا نستطيع أن نهضم حق شعراء قصيدة النثر الذين يجيدون الدهشة، ومثال ذلك الشاعر الراحل محمد الماغوط، صاحب التجربة الشعرية الناجحة في مجال قصيدة النثر.
خليل عاصي: مخاضها لم يكتمل
لا يتردد الشاعر اللبناني خليل عاصي، في إبداء رأي صارخ مفاده أن قصيدة النثر، بوضعها الحالي، أساءت إلى الشعر العربي. ويقول في السياق: لا تزال قصيدة النثر في مرحلة مخاض لم يكتمل بعد، وسنرى خلال الأيام المقبلة ما يمكن أن تقدمه.
فحتى الآن، نتبين أن التجارب النثرية أو قصيدة النثر الجيدة قليلة جداً، ومن أمثلة ذلك، تجربة الشاعر محمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج، وهي تجارب متميزة جداً وناجحة، تركت بصمة واضحة في عالم قصيدة النثر، إلا أنها، رغم ذلك، تعد قليلة جداً.
مشكلة
ويشير خليل عاصي إلى أن مشكلة قصيدة النثر تتمثل في استسهال كتابتها. ويقول في الشأن: أثَّر الاستسهال سلباً على هذا النوع الشعري، وأساء إليه كثيراً، وأفقده الكثير من المعايير التي ترتقي به، وبالنظر إلى نظرية الجوهر لدى ابن سينا، نرى أن الجوهر يتجسد في 3 أمور، هي العقل والجسد والروح.
ولو أسقطنا هذه العوامل الثلاثة على الشعر، نجد أن الفكرة الشعرية هي العقل، وشكل النص هو الجسد، والإيقاع هو الروح. لذا يجب أن تتوافر هذه العوامل الثلاثة في القصيدة على اختلاف نوعها، حتى يمكن تصنيفها شعراً.
غياب الضوابط
ويلفت عاصي إلى مشكلة أساسية يعاني منها الشعر بشكل عام، تكمن في المتطفلين على الشعر. ويحكي في الصدد: أصبحت الساحة تعج بالمتشاعرين الذين تطفلوا على كتابة الشعر رغم أنهم لا يجيدون كتابته، واستسهال دخولهم إلى هذا العالم أساء إليه بشكل كبير، لا سيما في ظل عدم وجود ضوابط تحد من ذلك. وكانت قصيدة النثر ساحة كبيرة سمحت لهؤلاء المتشاعرين بعرض نتاجاتهم التي لا ترتقي فعليا إلى مستوى الشعر.
الإيجاز والتوهج روحا شاعريتها
تعرِّف الناقدة الفرنسية، سوزان برنار، قصيدة النثر، أنها قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية.
وتتسم قصيدة النثر، كما تقول سوزان، بإيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية التي تعتمد على الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها والحالة العامة للقصيدة.
ويعد الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج، أحد أهم شعراء قصيدة النثر العربية، وكان قد قال عن شروط قصيدة النثر: لتكون قصيدة النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز والتوهج والمجانية.
فن صعب ونماذج مبهرة قليلة
يشير الشاعر الأردني يوسف عبد العزيز، إلى أن قصيدة النثر شكل آخر من أشكال الكتابة الشعرية، لافتاً إلى أن القصيدة الجميلة هي التي تفرض شكلها، بمعنى أنها تجتاح القارئ فلا يفكر بأي شكل كتبت. ولفت إلى وجود نقاد يصدرون توصيفات وأحكاماً فيما يتعلق بقصيدة النثر، معتبرين الإيقاع الداخلي فيها بديلاً عن الوزن والبحور المعروفة في الشعر العمودي.
وعن ما إذا كانت قصيدة النثر أسهل من غيرها، يؤكد عبد العزيز أن كثيرين يتصورون ذلك، إلا أن الحقيقة تؤكد أنها فن شعري صعب جداً، والنماذج المبهرة لهذه القصيدة في العالم العربي قليلة على الرغم من كثرة عدد كتابها، كما يوضح. ويلفت إلى أنه بات من الضروري أن يخرج الشعر من عباءة الأوزان من جهة، ومن الشعارات التي يطلقها أصحاب قصيدة النثر تجاه الشعرية الحقيقية، ليكون التركيز على الشعرية، فهي الأهم في كتابة الشعر.