في تاريخ 15 يونيو من عام 2011، قرر مجلس بلدية مدينة باريس، أن يطلق على أحد شوارعها، اسم غاستون غاليمار. وذلك في مناسبة الذكرى المئوية الأولى لتأسيس دار نشر غاليمار التي تعد من بين أكبر الأسماء في عالم النشر، ضمن فرنسا وأوروبا عامة، بل إنها غدت ذات حضور عالمي مهم. فما هي قصة هذه الدار وحكاياتها؟
لم يكن ليمر العام 1911، دون أن يؤسس كل من: غاستون غاليمار وجان شلومبيرجر واندريه جيد، دار نشر في باريس، تابعة لـ«المجلة الفرنسية الجديدة»، أي المجلّة الأدبية والنقدية.
والتي كانت قد تأسست في عام 1909، من قبل مجموعة أدباء وكتّاب، بمبادرة من الروائي جيد. ومن ضمن الذين نشرت لهم الدار أعمالهم، ما بين عامي 1911 و1919: بول كلوديل واندريه جيد وسان جون بيرس وبول فاليري. ويضاف إليهم كثير من الذين لمعت أسماؤهم في حقول الإبداع، في العالم كلّه.
«البحث عن الزمن الضائع»
كان غاستون غاليمار قد تولّى إدارة دار النشر. ونجح، بمساعدة اندريه جيد وجاك بريفير مدير «المجلة الفرنسية الجديدة» آنذاك، في إقناع مارسيل بروست، بنشر الجزء الثاني من عمله الشهير «البحث عن الزمن الضائع»، بعد أن كانت دار النشر نفسها، قد رفضت «من دون تبصّر»، نشر الجزء الأوّل من العمل ذاته. واللافت أنه حصلت دار نشر «المجلة الفرنسية الجديدة» مع نشر الجزء الثاني لعمل بروست، على جائزة «الغونكور» الأدبية، الأكثر أهمية في فرنسا، في عام 1919.
مرحلة مهمة
عمد غاستون غاليمار، في عام 1919، إلى تنشيط مشروع النشر المشترك في إطار «المجلّة الفرنسية الجديدة». وهكذا أنشأ «مكتبة غاليمار»، التي جمع فيها نشاطات المجلّة ودار النشر. ثم، وبالمشاركة مع أخيه رايمون غاليمار، اشترى مطبعة وأسس مكتبة وتوجّه نحو نشر قصص الأطفال والأدب الشعبي.
وكذلك عدد من المجلاّت، من بينها: «ماريان» عام 1931. ووقع اتفاقاً مع دار نشر هاشيت، غدا بموجبه، الموزع الوحيد لمطبوعاتها، منشّطاً في الوقت عينه، مبيعات كتبه. ومع تزايد مبيعات كتبه وأرباحه، أحاط غاستون غاليمار نفسه بمجموعة من المستشارين الأدبيين الذين شكّلوا «لجنة للقراءة»، وتعاونوا في القراءة والنشر.
وتولّى بعضهم الإشراف على مجموعات من السلاسل الأدبية. وهكذا أسندت إلى اندريه مالرو، الكاتب الشهير ووزير الثقافة لاحقاً في عهد الجنرال ديغول (جرى الحديث يومها عن لقاء القمّتين :السياسية والأدبية)، مسؤوليات المدير الفني لدار نشر غاليمار، وذلك في عام 1928.
انتعشت النشاطات الأدبية والثقافية لدار نشر غاليمار، أكثر فأكثر، مع وصول جيل جديد من المبدعين في شتى المجالات. وهكذا أصدرت الدار أعمال روائيين مبرزين، مثل: أندريه مالرو وانطوان دو سان اكزوبيري وجان جيونو وجان بول سارتر. إلى جانب أعمال شعراء مهمين، ليس أقلّهم شهرة لويس أراغون وهنري ميشو` واندريه بروتون.
وكذا برزت أعمال كتاب أجانب، منشورة تحت علامة دار نشر غاليمار، ومنهم: فرانز كافكا ومارغريت ميتشل. وفي مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية، أصدرت دار النشر أعمال فلاسفة عديدين، في مقدمتهم: آلان وسيغموند فرويد.
تعددت، في إطار نشاطات دار نشر غاليمار، بالتوازي مع تنامي قائمة الأسماء الشهيرة في عالم الفكر والأدب، المجموعات - السلاسل - المتخصصة، من الأدب الفرنسي أو العالمي، والتي ظهرت الأولى منها في عام 1921، تحت عنوان «عمل وصورة»، أعقبتها: «من العالم أجمع» و«حياة الرجال المشاهير» و«مكتبة الأفكار» و«الوثائق الزرقاء»، وأيضاً «مكتبة البلياد» التي تنشر أعمال كبار الكتّاب والأدباء والمفكرين في مجلّد واحد، بشكل وحجم معينين.
الحرب.. وما بعدها
عندما نشبت الحرب العالمية الثانية في عام 1939، غادر غاستون غاليمار، وعدد من العاملين معه، العاصمة باريس إلى منطقة النورماندي التي وصل إليها الألمان بعد فترة وجيزة. وقرر إثرها، العودة إلى العاصمة، تحديداً عام 1940، وبذا دخل في مفاوضات مع السلطات الألمانية.
حيث فرضت عليه تعيين الكاتب بيير دريو دو لاروشيل، الذي أبدى استعداده للتعاون مع النازيين، كمدير لـ«المجلة الفرنسية الجديدة». وبناء على هذا، فتح لاروشيل صفحات المجلّة لمؤيدي التعاون مع المحتل وأغلقها أمام معارضيه. وانتهى الأمر بإغلاق المجلة في عام 1943.
كما وضعت دار النشر تحت الرقابة المباشرة للسفارة الألمانية في باريس. وشرعت مجموعة من الأدباء العاملين في دار غاليمار، على رأسها وريمون كينو والبير كامو وجان بولهان، الذي كان أحد مؤسسي مجلّة الآداب الفرنسية عام 1942، في البحث عن طرق شتى.
ورغم الرقابة وصعوبات التزوّد بالورق، أصدرت دار نشر غاليمار عدداً من الأعمال التي نالت شهرة عالمية، مثل رواية «الغريب» لكامو (أحد الأعمال الأكثر قراءة في فرنسا منذ صدورها في عام 1942)، «أسطورة سيزيف» للمؤلف ذاته، «الجدار»، «الوجود والعدم» لجان بول سارتر الذي أسس مجلّة «الأزمنة الحديثة» الشهيرة عام 1945. وكذا كانت دار نشر غاليمار قد نشرت العديد من الأعمال الألمانية الكلاسيكية، خلال تلك الفترة، خاصّة أشعار غوته.
نجاح
عرف بعض إصدارات دار نشر غاليمار، بعد نهاية الحرب في عام 1945، نجاحاً كبيراً، وخاصّة كتابا: «الأمير الصغير» لأنطوان دو سان اكزوبيري و«ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل. وشغلت الدار مكانة مرموقة في الحياة الثقافية والأدبية الفرنسية. وتعاظم نشاطها خلال سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وبرز في أثنائها، عدد من الكتّاب الجدد، من أمثال:
مارغريت يورسنار، مارغريت دوراس، بريفير، جينيه. ووقعت الدار عقود استثمار حصرية لأعمال كتّاب كثر، كلويس فرنان سيلين وهنري دو مونترلان. وعلى صعيد الكتّاب الأجانب، أصدرت غاليمار أعمالاً متنوعة لبورخيس وأوجين يونسكو.
وإذا كانت دار نشر غاليمار هي الناشر لأعمال الفيلسوف جان بول سارتر، فإنها ركزت منذ بداية الستينات في القرن الفائت، على نشر أعمال فيلسوف فرنسي آخر شهير، وهو ميشيل فوكو فأسهمت بذا في جعل البنيوية تأخذ موقعا مهما في ميدان العلوم الانسانية. وساهمت بذلك، في أخذ البنيوية موقعاً متميّزاً في ميدان العلوم الإنسانية.
وعرفت الدار ظهور ثلاث «سلاسل كتب جديدة»، تحمل عناوين: «أفكار» و«مكتبة العلوم الإنسانية» و«مكتبة التاريخ». وفي سنوات الخمسينات من القرن الـ20، اشترت الدار أربع دور نشر صغيرة، وهي: «تيل»؛ «دينويل»، «لاتابل روند»، «ميركور دو فرانس»
فترة ذهبية
ترأس كلود غاليمار، الذي أصبح الرجل الثاني في دار النشر بعد والده منذ عقد الخمسينات في القرن الـ20، الدار، وذلك اعتباراً من 15 يناير 1976، إثر وفاة غاستون غاليمار. وطفق، حينها، في إدخال أبنائه الأربعة في أنشطة المشروع وبرامجه.
وبعد رحيل ابنه البكر كريستيان، في عام 1984، أخذ يهيئ ولده الثاني انطوان، ليكون خلفاً له على رئاسة دار النشر. وهو الأمر الذي حدث فعلياً مع وفاة الأب عام 1991. وفتح الرئيس الجديد أبواب الشركة (الدار)، للمرّة الأولى، أمام رؤوس الأموال الخارجية، بمساعدة بنك باريس الوطني.
انتخب انطوان غاليمار، على قاعدة الالتزام بالدفاع عن النشر والمكتبة والقراءة، رئيساً للنقابة الوطنية الفرنسية للنشر، في عام 2010. ونادى بضرورة التوصل إلى عملية ضبط «متوازنة» لسوق الكتاب الرقمية، ودعا إلى إصدار قانون حول سعر الكتاب عامّة، وكذا التفكير بالاستثمار الرقمي للمؤلفات الكبرى التي صدرت خلال القرن العشرين.
ومن التصريحات قريبة العهد، التي أطلقها: «حياتنا كناشرين مسبوكة من مسار يومي يختلط فيه الماضي بالحاضر والمستقبل. وقد حالفني الحظ خلال السنوات الأخيرة، مثل أبي وجدّي». لكن، ومع ذلك فإن «الحظ» حوّل مشروع النشر المتواضع إلى مؤسسة اختلط تاريخها بتاريخ الأدب الفرنسي في القرن العشرين. وفي تاريخ 26 يونيو من عام
حكاية «الغريب»
شرعت مجموعة من الأدباء العاملين في دار غاليمار، على رأسها ريمون كينو والبير كامو وجان بولهان، الذي كان أحد مؤسسي مجلّة «الآداب الفرنسية عام 1942، في البحث عن طرق شتى. وهذا، رغم الرقابة وصعوبات التزوّد بالورق، أصدرت دار نشر غاليمار عدداً من الأعمال التي نالت شهرة عالمية، مثل رواية «الغريب» لكامو (أحد الأعمال الأكثر قراءة في فرنسا منذ صدورها في عام 1942)، «أسطورة سيزيف» للمؤلف ذاته، «الجدار»، «الوجود والعدم» لجان بول سارتر الذي أسس مجلّة «الأزمنة الحديثة» الشهيرة عام 1945. وكذا كانت دار نشر غاليمار قد نشرت العديد من الأعمال الألمانية الكلاسيكية، خلال تلك الفترة، خاصّة أشعار غوته.