الهموم الأدبية في بلاد الاغتراب.. حنين وذكريات

ما من كاتب مبدع إلا وله رؤيته، وأوجه معاناته، وهو يحملها معه أينما حل أو اغترب، لتكون جزءاً من تغريبته. وفي خضم نار الذكريات العائدة من الوطن وجليد الغربة القارس، يجد الكاتب المغترب نفسه في معركة فكرية وأدبية شرسة، تتداخل فيها المشاعر والذكريات لتشكل حمماً داخلية تارة تخمد شعلتها، وتارة تتأجج في نصوص تدافع عن هويته ووجوده الإنساني. تأثير الغربة يظهر جلياً في محتوى الكتابة، حيث تنعكس مشاعر الاغتراب والحنين في نصوص المغترب، ما يثمر إبداعات أدبية تعبر عن الصراع الداخلي، كما من شأنها أحياناً، أن تكبح ملكة إبداع الكاتب، وتجعله يعيش صراعاً مريراً مع ذاته.

رحلة

أحمد إسماعيل، قاص وكاتب مسرحي سوري في ألمانيا، يقول: «على سراط البحر» هو عنوان مجموعتي القصصية التي صدرت العام الفائت، وقصدت به، أن حياتنا ما قبل«بحر إيجه» الذي اجتزناه على قوارب الموت، غيرها بعد الاجتياز، ولعل حالة المبدع أكثر عمقاً وأبعد مدى.

ويضيف: أول تعبير عن حالتي الداخلية كتبتها في نص مونودراما يحمل اسم «نسرين»، عن طفلة تشيخ خلال رحلة اللجوء من بلدتها في سوريا إلى ألمانيا، مروراً بتركيا، والتي كانت صورة طبق الأصل عن رحلتي.

يرى إسماعيل نفسه الآن في خريف العمر، وأن الزمن بات شبحاً لا يكف عن مطاردته ومحاولة افتراسه، ويؤكد أن ذلك انعكس في كتاباته، في لجة زمن قصير، سريع، ليل وحوارات قصيرة ومواضيع مأساوية.

ويتابع: لقد كنت غزير الكتابة في مجال الأطفال، حصدت فيه أكثر من جائزة، كان آخرها جائزة الهيئة العربية للمسرح المرتبة الأولى في 2010، وعرضت نصوصي في أغلب الدول العربية، ولكن منذ مغادرتي الوطن لم أكتب سوى نص واحد للأطفال، ولم أنشره بعد، لأن الطفل قبل الزلزال السوري هو غيره بعد الزلزال، وكذلك بعد غزو وسائل التواصل الاجتماعي حياة الأطفال وحياتنا، ولكنّ ثمة سبباً آخر يخصني، ألا وهو إن الطفل الذي كان في داخلي ويساهم في صياغة كتاباتي لهم قد شاخ.

إحساس بالفقد

ريما محفوض، شاعرة سورية في ألمانيا، تصف الكتابة بأنها منفذ كبير لنقل ما نحس به للآخرين وبأقرب صورة لما يجري في أعماقنا. وتقول: مهما قاربنا الواقع فلن نطابقه لأن ما يجري حتماً أكبر من توصيفه بصورة محدودة بالكلمات، ويبقى الدور الأكبر لإحساس القارئ في رسم الأبعاد التي ربما تكمل قليلاً ما يريد الكاتب إيصاله.

وتوضح أن الوطن حاضر فينا روحياً، سواء كنا فوق أرضه ونتنفس هواءه أم كنا بعيدين عنه جسدياً، الاختلاف يصبح فقط في تغير مجرى التعبير عن المعاناة التي تأخذ شكلاً أكثر تعقيداً وتأثيراً، إذ تضاف إليها حالات جديدة متعبة للمغتربين ومنها الحنين والاشتياق والإحساس بالافتقاد للأماكن والأشخاص وهذه حالات عامة تصيب أي مغترب.

وتضيف: هذه المسؤولية الإنسانية أولاً، والاجتماعية ثانياً، قد تكون في حالات كثيرة مربكة للمغتربين وعلى حساب معيشتهم اليومية لكن لابد لهم من توليها عن طيب خاطر. أيضاً كل ما يحدث في الوطن من مناسبات فرح أو حزن يخلق في صدورنا الغصة لعدم تواجدنا بجانب الأقارب ومن نحن، كل ذلك ينعكس على المضمون الأدبي وما يقدمه الكاتب المغترب.

روايات قاسية

د. يونس توفيق، روائي وشاعر عراقي في إيطاليا، يرى أن الرحيل هو دفن جزء من الجسد بين طيات الورق الأبيض بينما تأخذ الروح طريقها نحو أفق الحرية، أما الغربة فهي قاسية مثل مخالب وحش تنغرس في أعماق القلب، تجرحه حتى يصبح صراخه شهراً ملتهباً، والغريب وجود هائم يبحث عن أرض فيجدها في أول حضن يأويه فيصبح الوطن حينها أرضاً تبرق مثل كوكب بعيد يراه عبر دموع الحسرة والألم، وهنا يتحور الإبداع الفني ببطء حتى يصير صوراً مصفرة لوجوه حرقتها نار السنين.

ويقول: مع مرور الزمن أصبحت قصائدي تقطر دماً من جرح لا يندمل وأصبحت الذكريات فراشات تدور حول شمعة الانتظار حتى تحترق فيها. بدأت ألاحق وجهي في مرآة الحنين وأكتب روايات قاسية عن «غرباء في الحب» فأخترع لها حباً ولد على قارعة الطريق كي يكون لي وطناً بديلاً. أغرف من معاناة أخي الصغير اللاجئ، والذي هرب من جحيم حرب حرقت نارها خطاه على جليد أوروبا فأجعلها حدثاً يختزل سنوات من معاناة أسرة ناضلت من أجل البقاء.

ويضيف: رأيت في عيون المهاجر الليبي والسوري والسوداني والأفريقي القادم من عذاب أرضي رهيب إلى الضفة ما بعد الجحيم، قصصاً مكتوبة بحبر الحزن والشقاء لتكون صفحات من جسد إنسان مظلوم منقوشة كمسلة آشورية قديمة تحكي أسطورة تدور أحداثها في عالم اليوم.

معركة وجودية

جبر الشوفي، كاتب وناقد سوري في فرنسا، يفترض أن المنحى الفكري هو الأساس النظري الاستراتيجي للكتابة وأن فنيات الكتابة وجماليتها هي الحامل الذي يجعل هذه المادة الفكرية في دائرة الأدب، مفعمة بكل مؤثراتها العاطفية والوجدانية، لجعلها أكثر جاذبية وأشد تأثيراً في المتلقي.

ويقول: الكتابة الأدبية بالنسبة لي هي لحظة احتفاء بولادة النص الإبداعي عبر المخاض ليخرج منطوياً على قيمته الفكرية وأثره الوجداني المنسجم مع قوالبه التعبيرية وغايته وأهدافه القريبة والبعيدة ثم تأهيله فنياً بإحكام الصنعة ومستلزماتها حتى تتماهى المتعة بالفائدة.

وعن واقعه الحالي يضيف: أنا لم أزل ذلك الطائر الحر في بلدي والحرية لم تزل هاجسي الوجداني ومصدر قلقي النفسي والمعرفي ودافعي للكتابة، ولكني هنا بعد ثلاثة عشر عاماً في المغترب، بت أعاني الخيبة والاستلاب وانسداد المسافة بيني وبين حريتي المنشودة.

لذلك بات يتعمق في وجداني التعبير عن الحرية وقلق المعرفة وبت أخوض بالكتابة معركة وجودية ذاتية وإنسانية كونية كبرى. ومن أجلها أضفت إلى الكتابة مهام وظيفية ومعاني جديدة، أهمها أن الكتابة غدت سلاحاً أدافع به عن هويتي ووجودي الإنساني وأفك به عزلتي وأنتصر على غول الزمن في المنفى واللا جدوى وتجاه كل ما ينتهك خصوصيتي في ظل الاغتراب والاشتياق والحنين وهي غدت علاجاً لكل ما افتقدته هنا وهناك.

الأكثر مشاركة