الإمارات والثقافة.. التسامح وقبول الآخر!!

ت + ت - الحجم الطبيعي

وجدت كلمة «الثقافة» الاهتمام والعناية منذ أقدم العصور حتى يومنا، وقد كان هذا الاهتمام شاملاً، وفي جميع الحقب والحضارات المتعاقبة، بل هناك من قال إنها تعني الحضارة نفسها، ولذلك تعددت تعريفاتها ومصطلحاتها، وحتى يومنا هذا، باتت الثقافة أكثر تطوراً واتساعاً، وتحمل دلالات ومفاهيم جديدة ومتنوعة.

وغني عن القول إن الأمة التي تهتم بالثقافة والفعل الثقافي، وتحاول أن تصنع حركة ثقافية، هي أمة واعية ومدركة لشروط ومتطلبات التطور والتقدم الإنساني، فلا يمكن بناء مجتمع قوي متماسك، دون أن يملك هذا المجتمع الوعي الثقافي والإدراك والمعرفة، والجدية للبناء والتطور.

لذا، كان الاهتمام بروح الثقافة وبكل أدواتها ووسائلها مبكراً جداً في الإمارات، ورغم العمر القصير لدولتنا الفتية، إذا تم قياسه بعمر الأمم والدول، إلا أن منجزاتها عظيمة ومتلاحقة ومستمرة، ولله الحمد، ومن هذه المنجزات، مسيرتها الثقافية، حيث تطور الإبداع الإنساني على مختلف صورة وأنواعه، وأقيمت المؤسسات الثقافية والمجمعات الأدبية، وأنشأت الجوائز، والمسابقات، التي تستهدف التشجيع، وتنمية الحراك المجتمعي بوعي ومعرفة.

بعد إعلان الاتحاد في الثاني من ديسمبر 1971، هيمن الشعر وتصدر قائمة الإبداع، ولعل هذا يعود لكونه أقدم الأنواع الأدبية وأكثرها شعبية، إلا أن الأصناف الأدبية الأخرى لم تكن بمعزل، أو متأخرة عن اللحاق بهذه المسيرة، فسرعان ما أخذت مكانها في منظومة الإنتاج الأدبي، فظهرت الرواية والقصة والمسرح والمقالة وغيرها.

هذا الحراك المعرفي لم يكن ليتحقق في هذه الفترة الزمنية القليلة، لو افتقرت للدعم المناسب والمدروس، الدعم الذي ينمي ويرفض الاتكال والاعتماد، بل دعم تمثل في إنشاء المؤسسات المتخصصة، وابتكار مراكز وبرامج من شأنها دعم الفعل الثقافي، ومساعدة هذه الحركة على النمو والتسارع بشكل طبيعي.

هذا النجاح، الذي تم في فترة زمنية قصيرة، له سبب وقصة، لعلها تتلخص في استخدام واحدة من أهم وسائل الثقافة وأدواتها، وهي التعليم، التعليم الذي بدأ مع أول شمس تشرق على هذا الاتحاد العظيم، التعليم الذي انطلق بكل حماس وجدية، فرصدت له الميزانيات، وافتتحت المدارس في المدن والقرى والهجر، وتم ابتعاث الأبناء والبنات لجامعات العالم للنهل من العلوم المختلفة، فلم تمضِ سنوات إلا والثمار أينعت، وبدأ شباب وفتيات الإمارات في الإنتاج والتطور. لذا، لا غرو أن تكون الإمارات من أهم دول العالم، بل ووجهة للعديد من الناس الذين يأتونها من مختلف بقاع الكرة الأرضية، فتجد التنوع والتسامح وثقافة راسخة وثقة بالنفس.

كان الجانب الآخر من أسرار التفوق الإماراتي والنهوض، هو العمل على تعزيز القيم النبيلة المتوارثة من قلوب وعقول الأجداد والآباء، وترسيخها في وجدان وأفئدة النشء الجديد من الأبناء، فكانت أولى كلمات هذه القيم «التسامح» وقبول الآخر، واحترام الإنسانية بصفة عامة، وعدم الاعتداء، والعمل على نشر السلام والمحبة وقيم الخير في كل مكان، ومساعدة القريب والغريب، والوقوف مع جميع إخوتنا العرب في كل مصاب يتعرضون له من نوائب الزمن، هذه الوقفة الإماراتية لم تكن من حكومة لحكومة وحسب، وإنما امتدت للأفراد أنفسهم، فقدمت على امتداد تاريخها المأوى والأمن والحياة الكريمة لكل قاصد، دون تمييز، أو وضع حسابات وشروط وعقبات.

وفي هذا السياق، أتذكر كلمة الصحافي القدير محسن حسين، الذي أمضى نحو ستين عاماً في بلاط صاحبة الجلالة، الصحافة، حيث تحدث في مقدمته لكتاب، صدر عن دبي الثقافية تحت عنوان: «أوراق صحفي عراقي»، عن محنة الحرب وعدم الأمن، وسرد قصة محاولته نشر هذا الكتاب تحت عنوان: «ذكريات صحفية»، حيث تلاشى هذا الأمل، عندما وضع مسلحون مجهولون في دار النشر التي كانت تعتزم نشر الكتاب، قنبلة في المكتبة، وفجروها، وأحرقوا ما فيها من كتب، ومنها كتابه «ذكريات صحفية»، فقال في مقدمته لكتابه الجديد «أوراق صحفي عراقي»، الذي صدر عن مجلة دبي الثقافية: «كتابي الجديد هذا، دون شك، سيكون آمناً، كما أنا وعائلتي نعيش آمنين منذ ست سنوات في هذا البلد الآمن، دبي، بعد أن فقدنا الأمن في بغداد، وتركت كل شيء: بيتي ومكتبتي وأشجار حديقتي وذكريات العمر.

كتابي هذا في أيادٍ أمينة، لدى الإخوة في مجلة دبي الثقافية، الذين تكرموا بطبعه، كما هم يفعلون كل شهر مع كتاب وشعراء عرب من البلدان العربية، دون تمييز، فأنا مدين لهم، شاكراً لهم كرمهم وحرصهم على أن تكون دبي الدولة، ودبي الثقافية، الحضن الدافئ لكل من افتقد الدفء في وطننا، الذي يحترق ويحترق بما فيه ومن فيه».

وما يميز الثقافة الإماراتية أنها لم تكن ثقافة جامدة أسمنتية - إذا صح التعبير- كالمباني والعمائر والطرق والسدود، بل كانت ثقافة إنسانية باقتدار، ثقافة من الإنسان إلى الإنسان، ثقافة لها مقدراتها الحسية، وجوانبها المحملة بالمشاعر الدافئة، التي تقترب من كل البشرية دون استثناء.

الثقافة الإماراتية لم تكن متسامحة مع الآخر وحسب، بل كانت مفيدة لهذا الآخر، فالمواطن الإماراتي، مع وطنيته الشديدة، لم يلغِ الآخرين أو يصنفهم ويهمشهم، بل اعتبرهم شركاء في الهدف، وهو خدمة الوطن، وبناء المزيد من الإنجازات.

وهذا تفكير طبيعي، ومحصلة لما غرسه في القلوب صاحب السمو الشيخ زايد آل نهيان، رحمه الله رحمة واسعة، من حب الخير، والعمل لبناء هذا الاتحاد العظيم، والحث على تذكر الآباء والأجداد، وقيمهم النبيلة، حيث قال رحمه الله: «إن الآباء هم الرعيل الأول، الذي لولا جَلَدهم على خطوب الزمان وقساوة العيش، لما كتب لجيلنا الوجود على هذه الأرض، التي ننعم اليوم بخيراتها»، أما عن مستقبل هذا الاتحاد، الذي وضع لبناته الأولى، وسهر الليالي الطوال على ترسيخها وتقويتها، فقال رحمه الله: «إنني متفائل بمستقبل هذا البلد، ومستقبل هذه الأمة، لقد بنى الأسلاف من أجل هذا الجيل، وعلى الشباب اليوم أن يبني للأجيال القادمة، إن كلاً منا حين يعمل من أجل وطنه، إنما يعمل لتحقيق هدفين: الهدف الأول: هو أن يحظى برضاء ربه وخالقه قبل كل شيء.. الهدف الثاني: هو أن يحظى بثمرة عمله.. وإذا أخلص كل منا في عمله، فإن هذا العمل سوف يبقى مخلداً على مر السنين، وأمام الأجيال القادمة، وهذا لا يعادله أي ثروة، لأن الثروة زائلة، ولا قيمة لها إلا إذا اقترنت بالعمل المخلص، والوطن يعرف أبناءه المخلصين، ويفخر بهم، كما يعتز بهم الأهل والعشيرة»، إن السياسات الجميلة النبيلة البعيدة المدى، التي وضعها هذا القائد العظيم، رحمه الله، برهنت السنوات على تفوقها ونجاحها الكبير، فكانت محل إشادة وتقدير لكل صناع القرار في العالم، وصدرت تقارير وبحوث من منظمات أممية ودولية، تشيد باتحاد الإمارات العربية، وبفكر ونهج الشيخ زايد، رحمه الله، حتى تحقق هذا الكيان الوحدوي الفريد.

نحن على خطاك أيها الوالد الوفي، في تقوية هذا الاتحاد، والعمل على رفعته، وأن يظل شامخاً، ونسأل الله دوماً الرحمة والمغفرة للشيخ زايد، وأن يثيبه من الأجر أعظمه، على كل خير ننعم ونرفل فيه.

Email