المقيظ في الإمارات.. ذكريات ورحلات الزمن الجميل

تُعتبر رحلة المقيظ قديماً في الإمارات جزءاً من التراث الثقافي العريق للمنطقة وإن القيظ هي لفظة تُطلق على فصل الصيف في الإمارات وغالباً ما يكون في الفترة الممتدة من شهر مايو حتى شهر أغسطس، حيثُ ترتفع درجات الحرارة وتبدأ المحاصيل الزراعية بالنضوج وخاصة الرطب وتسمى تلك المرحلة بـ«القيظ» أو قاضت النخل وتعني بدء مرحلة جني الثمار؛ وأما المقيظ فهو أماكن سكن الأهالي في تلك الفترة وانتقالهم من الساحل إلى المناطق الداخلية، حيث كانت هذه الرحلات تحمل أهمية كبيرة في حياة الأجداد وتُشكل جزءاً لا يتجزأ من نمط حياتهم وتفاعلهم مع البيئة القاسية، وكانت هذه الرحلات تتميز بتحدياتها وفُرصها وتبرز فيها قيم الصبر والتعاون والتكيف مع الطبيعة، وتشكل جزءاً مهماً من التراث والتاريخ الإماراتي وأيضاً تبرز جوانب القيم الاجتماعية والثقافية التي ساعدت الأجداد على مواجهة تحديات الحياة فإن فهم هذه الرحلات وتقديرها يُساعدنا على إدراك الجوانب المتعددة للهوية الإماراتية والقدرة كذلك على التكيف مع التغيرات المناخية البيئية.

أسباب الرحلة

كانت الرحلات في فصل القيظ تُعد ضرورية لعدة أسباب والتي من أهمها الارتفاع الشديد في درجات الحرارة في المناطق الساحلية حيث إن العديد من الأسر كانت تنتقل إلى المناطق الداخلية الأكثر برودة مثل مناطق الواحات والجبال وهذه الرحلات غالباً ما تهدف إلى البحث عن درجات حرارة أقل حدة؛ وتوافر المياه والزراعة البسيطة أيضاً مما كان يُتيح لهم فرصاً أفضل للعيش وممارسة أنشطتهم اليومية التي اعتادوا عليها، فينتقلون من البيوت الشتوية إلى بيوت العريش المصنوعة من سعف وجريد النخل التي غالباً ما تكون بالقرب من المزارع لكي يكونوا بالقرب من مراكز جني المحاصيل الزراعية.

قبل انطلاق الرحلة كانت الأسر تستعد بشكل دقيق لهذه الرحلة حيث يقومون بتحضير المؤن اللازمة من الطعام والشراب والأدوات التي سيحتاجونها خلال فترة إقامتهم في المناطق الداخلية ويتضمن التحضير جمع التمر وتحضير القهوة وحزم الأدوات الزراعية وأيضاً أدوات الصيد التي قد يحتاجونها خلال الرحلة، ثم يأتي (الكريان) وهم أصحاب الجمال حيث يقومون بتجهيزها وتأجيرها إلى أهل الساحل الذين لا يملكون أي مطايا بحيث يتم استخدام هذه الجمال في التنقل من المناطق الساحلية إلى مناطق الواحات الداخلية.

بيوت العريش

خلال فترة القيظ تتغير الحياة اليومية بشكل كبير لما كانت عليه في الفترات الأخرى من فصول وأيام السنة، حيث يتولى تجهيز بيوت العريش وإعدادها لاستقبال الضيوف القادمين للمقيظ أهل الواحات والمناطق الزراعية كما يقومون بتوفير احتياجات القادمين من أغذية مختلفة حتى يقضوا شهور الصيف بقدر من الراحة حسب إمكانيات الزمن القديم، والنساء يقمن بالمهام المنزلية التقليدية مثل إعداد الطعام والعناية بالأطفال، بينما يذهب الرجال إلى العمل في الزراعة والصيد.

رغم حرارة الشمس الشديدة لم تتوقف الأنشطة الاقتصادية خلال فترة القيظ حيث كان بعض الرجال يخرجون للغوص لاستخراج اللؤلؤ، إذ إنه يستمر لكونه مصدر دخل رئيسي ورحلة الغوص كانت تتطلب الشجاعة من المرء وكذلك تحمله على مشاقها حيث إن الغواصين يقضون ساعات طويلة في البحر تحت أشعة الشمس الحارقة بجانب الغوص، بينما الرجال الذين كانوا يخرجون لرحلات القيظ في المناطق الداخلية فإنهم يشتغلون بالزراعة التي تعتبر أيضاً جزءاً مهماً من الحياة الاقتصادية وتتم زراعة بعض المحاصيل في الواحات التي تتميز بتوافر المياه.

من أشهر أماكن المقيظ في دولة الإمارات قديماً واحات المياه والأفلاج حيث توافر مياه الشرب والري، ففي أبوظبي واحات ليوا والظفرة وواحات العين وبساتين الجاهلي وغيرها، وفلج المعلا والحيل والراس في أم القيوين، ومصفوت ونخل مريم واليوارة في عجمان، وكذلك واحات الذيد ومدينتي كلباء ودبا الحصن التابعة لإمارة الشارقة في المنطقتين الوسطى والشرقية، وهناك أيضاً مناطق الحيرة، المرقاب، الشرق، الفلج والتي تقع جميعها في إمارة الشارقة، أما في دبي فنجد مناطق متنوعة يقصدها «المقيظون» ومنها أم سقيم، البراحة، جميرا، أبو هيل.

الجانب الاجتماعي والثقافي

تعتبر رحلة المقيظ منظومة اجتماعية من الحُب والجيرة والتعاون والتآزر مع تمازج الثقافات بين أهل البيئات الساحلية والحضرية مع سكان مناطق المزارع وهذه تعتبر من الأنماط الجميلة في السلوك الإيجابي وتعكس ثقافة الارتباط بالأرض والاستقرار، كانت تُقام الأمسيات التي تُقضى في المجالس ويتبادل الناس الأحاديث والقصص والأشعار وأما الأطفال فقد كانوا يلعبون الألعاب التقليدية وأيضاً كانوا يستمعون إلى قصص الكبار ما يساعد على نقل التراث الثقافي والقيم الاجتماعية من جيل إلى آخر. رحلة المقيظ هذه كانت تُعزز فكرة الترابط الاجتماعي والمُصاهرة أيضاً فالكثير من أهل الساحل تصاهروا مع أهل المناطق الداخلية والعكس أيضاً مما جعل هذا الترابط وثيقاً جداً بين أهل الإمارات قديماً والذي يُعزز الثقافة والتكافل الاجتماعي بين الأسر وترابطها.

نهاية الرحلة

مع اقتراب نهاية فصل القيظ وبدء انخفاض درجات الحرارة كانت الأسر تستعد للعودة إلى مناطقها الساحلية ويتم جمع المؤن المُتبقية وترتيب الأدوات والتحضير للعودة إلى الحياة المُعتادة على الساحل، كان الجميع يعودون محملين بالذكريات والخبرات التي اكتسبوها خلال فترة الإقامة في الواحات والجبال.

الأكثر مشاركة