الحج في الذاكرة الإماراتية.. رحلة تهفو لها القلوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعد موسم الحج من أهم المواسم التي رسخت في ذاكرة الإماراتيين، وتوارثوها منذ زمن بعيد، بما تتضمنه من عادات وتقاليد خاصة بوداع قاصدي بيت الله الحرام. فالاحتفال بذهاب الحجاج وعودتهم كان ولا يزال جزءاً أصيلاً من طقوس أداء الفريضة لدى المجتمع الإماراتي، بما يحيط بها من العلاقات التراثية الجميلة.

وقد اتسمت رحلة الحج حينذاك بأن القلوب فيها كانت كما هو حالها اليوم مفعمة بالإيمان، حيث تتكبد الأجساد فيها المشقة وهي تمضي شهوراً على ظهور المطايا تجتاز دروب الصحراء وقفارها في ظروف بالغة الصعوبة والقلق من التعرض للصوص وقطاع الطرق للسطو على ما يحملونه من عدة وعتاد وغذاء، إضافة إلى وعورة الطريق فإذا جاء موسم الحج في فصل الشتاء يكونون عرضة للسيول الجارفة، أما في فصل الصيف يكونون عرضة للهيب الشمس القاتل والعطش الذي لا يرحم.

لم تمنع الأمور السابقة وغيرها التي كانت تواجه الحجاج الإماراتيين للوصول إلى مكة المكرمة، بل كانت حافزاً قوياً لأداء الفريضة وسط مشاعر فياضة.

الانطلاق

قوافل الحج الإماراتية قديماً، في طريقها لأداء المناسك كانت تمر برحلة شاقة تستمر شهوراً، ويتعرض الحجيج خلالها لمخاطر الجوع والعطش وقطّاع الطرق، فتحرص القوافل المتجهة إلى المدينة المنورة، على وجود «دليل» معها خبير الطرق عبر الصحراء، وحفظ أماكن توافر المياه فيها، ويستعين بـ«الديرة» وهي البوصلة في ضبط اتجاه الحركة بدقة تامة.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن قوافل الحجاج كانت تصاحبها في كثير من الحالات حراسات، يتوزع أفرادها على مقدمة القافلة ومؤخرتها بغرض حمايتها. فمحدودية الوسائل والحياة الصعبة التي عاشها الأجداد في الماضي، لم تكن لتمنعهم من حلم الوصول إلى بيت الله الحرام، وأداء هذا الركن الأعظم في الإسلام.

إضافة إلى ذلك كانت رحلة الحج الطويلة مناسبة حافلة بالحياة تنشأ خلالها الصداقات التي تستمر طوال العمر، لتبقى هذه الرحلة عنواناً للعلاقات الإنسانية وفرصة لإبراز العادات والتقاليد التي تخص كل قبيلة، في تبادل المعارف والخبرات الحياتية المتنوعة، تتجسد خلالها معانٍ عدة تشير إلى اهتمامات الآباء والأجداد.

طقوس الوداع

تعقد النية للحج منذ الأيام الأولى من شهر رمضان، حيث يبدأ الحاج بزيارة والتقاء الجيران والأصدقاء والأهل للإعلان عن رغبته في تأدية هذه الفريضة، وطلب العفو والمسامحة ممن أساء إليه، أو أخطأ بحقه دون أن تكون هناك ضغينة في قلب أحدٍ له. وعادة ما يجهز الحجاج قافلة كبيرة من المطايا، جزء منها لركوب النساء وأخرى للرجال، فيما تختص الجمال بحمل الحطب والطعام والزاد من مختلف أنواع المؤن، التي تتحمل حرارة الجو لمدة طويلة ليحملوها معهم، وبعض البنادق الخفيفة التي تقي الحجاج خطر قطاع الطرق المتربصين لهم، أما الإبل فيجمعون لها أوراق شجر السمر، ويقومون بطحنها وعجنها، لتقوى بها على المسير طويلاً.

مناسك ومنافع

خلال موسم الحج تنتعش الحركة التجارية والاقتصادية عموماً، لكن تسيير حملات الحج على ظهور الإبل بالنسبة إلى الإماراتيين في تلك الفترة ظل النشاط التجاري الأقوى؛ لذلك نجد رجالاً تخصصوا فيه منذ زمن واتخذوه وسيلتهم لكسب الرزق، وعادة ما يختار مسيرو رحلات الحج قديماً نوعاً خاصاً من النوق يسمى «الزمول»، له قدرة عالية على الصبر والتحمل، لحمل الأشخاص والأمتعة والمؤن ومختلف الحاجيات، ويفضلونه على غيره من النوق لقوته وصبره.

المطراش

بعد انتهاء موسم الحج يأتي دور «المطراش»، وهو شخص كثير السفر يمتلك إبلاً خاصة يتنقل من مكان إلى آخر بغرض التجارة، وكان ينقل الأخبار بقرب ميعاد وصول الحجاج، وهنا يبدأ أفراد الأسرة برفع الأعلام وكانت عبارة عن قطعة قماش فوق المنازل «يسمونها «النشرة» أو«البيرق» أو«البنديرة» معبرين عن احتفالهم بعودة الغائب.

رحلة العودة

عادة ما تكون رحلة العودة إلى الديار بعد الحج، أكثر مشقة من رحلة البداية، فالحجاج تكون المناسك والسفر قد أنهكتهم لكن هذا كله لم يكن يحد من العزيمة القوية على بلوغ مقصدهم حتى لو كلف الأمر حياتهم، ويستوجب على الحجيج إحضار ماء زمزم والتمر، وبعض الهدايا للأقارب والأصدقاء والجيران، والحلي الفضية والذهبية للنساء والمسابح والسجاجيد للصلاة.

يستعد الأهالي لاستقبال الحجاج العائدين من الأراضي المقدسة وتُزيّن مداخل البيوت بسعف النخيل، وترفع الرايات فوق أسطحها. ويبدأ توافد الزائرين إلى بيوتهم للتهنئة، على وقع الأهازيج التراثية التي تشبه إلى حد ما أناشيد الموالد الإماراتية التي تغنى في مولد النبي ــ صلى الله عليه وسلم - بجو يسوده الفرح بعودة الحاج سالماً وغانماً، إضافة إلى إعداد العزائم والولائم، وتقديم الفوالة الشعبية المميزة التي تحضر في كل بيت.

Email