إيهاب الملاح: الفعاليات الإماراتية ملأت فراغاً كبيراً في الحياة الثقافية العربية

يسعى الكاتب والباحث المصري إيهاب الملاح، الانتصار لمشروعه التوثيقي، بعد أن شهدت الشعوب فترات زمنية أهملت فيها إنتاجات الرموز الأدبية بسبب التيارات المختلفة، مما دفعه إلى إصدار كتب توثيقية مهمة عن شخصيات أدبية عميقة بأعمالها المؤثرة، والموروث الشعبي في التراث العربي الأصيل، بالطبع هو مشروع خاص لمثقف، لكنه مشروع توثيقي عام وغاية في الأهمية، يمس الشعوب وفكرها، موضحاً الإيمان العميق بالدور الاجتماعي للمثقف في نشر قيم المعرفة، فكان لـ«البيان» معه هذا الحوار: 

إيهاب الملاح، تعد اليوم أرشيفاً نادراً للقاهرة المعاصرة وإعلامها وأعلامها الأوائل، ولعناوين باتت غير مذكورة، فهل لأنك تخشى النسيان الذي بات يزحف بقوة على صور المؤسسين والمبدعين؟

نعم. أنا مرتعب من هذا قد أبدو متشائماً بعض الشيء حينما أقول إنه مع التقدم المذهل في وسائل الاتصالات ووسائط المعرفة وتداولها، فإنني بت أخشى من الخلط الفاحش بين «استعراض المعلومات» و«حفظها» وإنتاج المعرفة، الاستشهاد بالأسماء وإهدار قيمتها وتاريخها وأدوارها الإنسانية والمعرفية، غياب التوثيق والنقد والمراجعة في ظل الفوضى العارمة والعشوائية التي تحاصرنا من كل جانب. 

ذات مرة، كتب لي أحد الأصدقاء العرب متعجباً من حماستي للكتابة عن أعلام الفكر والثقافة والأدب والنقد في مصر والعالم العربي، مندهشاً من التفاصيل التي أوردها عن هؤلاء، وعن إنجازاتهم في التأليف والترجمة والنشاط الثقافي العام، معتبراً من وجهة نظره «أن هذه الكتابة تمثل مواكبة دقيقة للأحداث والوقائع الثقافية في مصر والعالم العربي». لكن في الحقيقة ليس هذا هو السبب الوحيد؛ هناك سبب آخر وربما أساسي وراء ما وصفه «بالحماسة» و«المواكبة» و«استقصاء التفاصيل».

يعود هذا لإحساسي الرهيب بأن الطبقة الخصبة الثرية من تربتنا الثقافية تجرف وتنتهي ويصعب تعويضها. مع غياب ورحيل كل اسم ذي قيمة حقيقية وصاحب منجز حقيقي في العقود الماضية لا يوجد - من بعدهم - من يعوض هذا الغياب وهذا الفراغ!

من لدينا الآن يعوض غيابات فادحة في النقد والفكر والثقافة، من بقي من جيل الستينيات ومن لديه الآن الجسارة الإبداعية والخوض المغامر الجريء في البحث عن شكل وخصوصية للسردية العربية؟ من يواجه التابوهات بشجاعة وجسارة؟ من يعوض غيابات الموسوعيين وأصحاب المشروعات الفكرية والمنجزات الضخمة في ثقافتنا العربية (محمد عناني الذي رحل عنا قبل أشهر قليلة أنجز وحده وبمفرده ما يزيد على 130 عملاً أصيلاً ما بين مترجم ومؤلف ومحرر ومختار).

القيمة التي ترحل الآن في أي مكان من عالمنا العربي ربما لا يوجد من يعوضها للأسف، وندعو الله ألا يطول الوقت الذي سنستغرقه كي يوجد من يعوض هذه القيم ويجاوزها.

قلما نجد في جغرافيا النقد والصحافة والكتابة في يومنا هذا، من يكتب عن المكان والذاكرة الجمالية بهذه الدقة... هل لديك شعور المسؤولية؟

نعم. شعور جارف لا يكف عن ملاحقتي وتعذيبي؛ ربما ورثت هذا الشعور عن أساتذتي بجامعة القاهرة وإيمانهم العميق بالدور الاجتماعي اللازم للمثقف والمسؤولية الاجتماعية في إشاعة قيم المعرفة والإنسانية والبحث عن الجمال والقدرة على تذوقه.

حدثنا عن الكتاب الذي ألفته عن طه حسين: (تجديد ذكرى عميد الأدب) والذي فاز بجائزة أحسن كتاب في العلوم الإنسانية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2022؟

يجلي الكتاب؛ أو هكذا يتمنى مؤلفه، أبرز وأهم مراحل طه حسين التكوينية، الثقافية والإنسانية، ويجلي أدواره ومواقفه ويحاول أن يرسم صورة واضحة المعالم محددة القسمات لوجوه طه حسين المتعددة؛ والإمساك بمفاصل أدواره الكبرى في الثقافة والتعليم والإصلاح الاجتماعي، داخل الجامعة وخارجها، وفي المجال العام، وتحليل كذلك ما تعرض له من هجوم كاسح وتشويه لا أخلاقي على يد خصومه من التيارات الدينية وبالأخص تيارات الإسلام السياسي، اجتهد الكتاب في تجلية ذلك كله، وآمل مخلصاً أن أضعه بين يدي كل من سألني بصدق: ومن يكون طه حسين؟ وماذا قدم لنا ولثقافتنا المصرية والعربية؟ ولماذا نتذكره الآن ونجدد ذكراه؟ وأتعشم أن يجد الباحث والقارئ إجابة محتملة مقبولة في هذا الكتاب.

لديك تعاون قيم مع دولة الإمارات من خلال مؤسساتها الثقافية، حدثنا عن تعاونك وإنتاجك مع معهد الشارقة للتراث؟

إن الفعاليات التي تنظمها دولة الإمارات عموماً (والشارقة بالخصوص) ومؤسساتها النشطة الفاعلة التي أتصور أنها ملأت فراغاً كبيراً جداً في الحياة الثقافية العربية خلال السنوات العشر الماضية في ظل الأحداث السياسية والتوترات التي لا تنتهي وتراجع المراكز الثقافية المعروفة عن أداء أدوارها بكفاءة وفعالية لم تكن سوى الإمارات، ولم يكن سوى الشارقة، وفي القلب من مؤسساتها معهد الشارقة للتراث الذي قام على أسس متينة وراسخة، وورث المعهد الدور الكبير والعظيم والمتسع الذي كان محدداً لأكاديميات الفنون الكبرى، وما على شاكلتها في عالمنا العربي، مستفيداً من الدعم اللا محدود من القيادة الحكيمة في الإمارات ورؤيتها الثاقبة، وقدرتها على استشراف المستقبل وإيمانها العميق والحقيق بالعلم والاستثمار في الإنسان قبل الاستثمار في الحجر. 

لا بد وأن يسجل التاريخ يوماً ما هذه التجربة بهذا الألق وهذا الحضور وهذا المدى الواسع من التأثير الحقيقي والعميق.

النقد الأدبي لنجيب محفوظ، ونصوصه التي تنبش فيها بشكل مختلف ومتجدد، كيف ترى أدبه بعد مرور أكثر من نصف قرن؟

أراه أحد دعائم حضور أدبنا العربي وثقافتنا العربية في المشهد الإنساني والعالمي؛ ما زلت على قناعتي بأن ما قدمه محفوظ للعربية لغة وثقافة وأدباً منفرداً لم يقدمه مبدع آخر منذ المتنبي والتوحيدي وأبي العلاء المعري وابن خلدون. استطاع محفوظ أن يقدم الدليل العملي على روعة وأصالة لغتنا العربية وصلاحيتها للبقاء والخلود. أظن أن نجيب محفوظ يمثل في الثقافة العربية ما يمثله حافظ الشيرازي للفرس، ودانتي للإيطاليين، وجوته للألمان، وشكسبير وديكنز للإنجليز، وبلزاك للفرنسيين وديستويفسكي للروس.. وما يناظرهم في أي ثقافة أخرى من ثقافات العالم.

الأكثر مشاركة