.. بالقرب من تخوم أحياء القاهرة الراقية التي ترفل في مظاهر الأبهة والاسترخاء وحياة المخمل.. تتعالى أصوات أخرى قادمة من عمق حياة أخرى صاخبة ومتعبة.. تنأى بنفسها عن حياة الدعة والراحة ـ غصبا ـ وليس اختيارا ـ فهذا خيار وقدر. فالرزق هنا له طعم ومذاق مختلف يأتي ممزوجا برائحة الأبدان في حوار ضيقة ملتوية في مصر الأخرى تجأر الأصوات بالغناء أحيانا لتنبيه المارة وإيقاظ أسماعهم لبضائعهم ومهنهم التي بالكاد مازالت تتنفس رحيق الحياة متشبثة بماض مازال عالقا في ثنايا الوجدان. وهذه المهن أصبح مكانها الوحيد في الأماكن العتيقة في شوارع وحوار مصر.. وتأتي منسجمة مع «الحالة العامة» لهذه الأماكن ولا يستغربها مار أو عابر.. رغم ما طرأ عليها من تحديث وتطوير في أماكن أخرى ليست بعيدة. فهذا الواقف كالوتد في الميدان الفسيح في رحاب الحسين حاملا قربته الزجاجية مناديا على ما تحويه «شفاء وخمير يا عرقسوس» بلحن صوتي يلفه تعب السير اليومي ويصاحب ذلك دقات نحاسية لصاجات يحملها في اليد الأخرى.. يلتف حول المارة في نهارات الصيف والقيظ في محاولة لاطفاء حرارة الجوف بكوب مثلج من العرقسوس.. سبيل الرزق الوحيد لهذا القادم أحيانا من صعيد أو ريف مصر جل خبرته في أم المدائن ـ القاهرة ـ اعداد قربة يومية من ذاك المشروب الذي استطاع المصريون تمصيره. فرغم أن موطنه الأصلي هو جنوب أوروبا وأجزاء من آسيا وتعتبر أمريكا أكبر مستهلك للعشب، حيث تستورد 18 مليون كيلوجرام سنويا منه، إلا أنه ارتبط بأذهان الزائرين بشوارع وحواري القاهرة وميادينها العتيقة. والعرقسوس عشب معمر تستخرج منه مادة ذات نكهة عالية القيمة تأتي من جذور العشب الطويلة الحلوة المذاق ويستخدم في تصنيع الأدوية ويدخل في تركيب بعض عقاقير السعال ومفيد للمعدة ويميل العرقسوس في شكله التجاري لدى الباعة المتجولين إلى اللون البني ويصنّع بغلي العرقسوس وتبخير خلاصته. وعلى استطالة النظر يجلس بائع آخر خلف عربة خشبية تبدو متهالكة في أحسن حالاتها تئن بما تحمل من عبوات «البخور» و«الجاوي والحنة» و«الشابة والفاسوخة» و«عين العفريت»، ولكنها تفوح منها روائح عطرة التصقت بذات المكان منذ عصور قديمة وتحول إلى تراث وطقس شعبي يستعمله الناس لتجميل المكان ونشر روائح ذكية في أرجائه. وفي المعتقد الشعبي أن البخور ولوازمه وتحويجاته يطارد برائحته الشياطين والحساد، وكما يقول بسطاء المصريين: «عين الحسود فيها عود».. والعود والبخور واخوانهما تتنسم روائحهما هنا في مصر الأخرى.. فتلتبسك حالة المكان وتذوب في روحانيته وطقوسه المتوارثة.. وتروج السلعة أكثر ويفرح باعتها أيام الجمعة والموالد والاحتفالات في أحياء الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة وكل الأولياء في مصر المحروسة.. ولم يرصد أحد تفسيرا لذلك. رغم أن كتب التاريخ القديمة تذكر أن قدماء المصريين اعتادوا حرق البخور في الاحتفالات الدينية ومارس هذه العادة اليونانيون والرومان وتبعتهم الجماعات النصرانية الأولى ولايزال حرق البخور جزءا من طقوس الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وبعض الكنائس الأسقفية ويحرق البوذيون كذلك البخور أثناء الاحتفالات الدينية. والبخور خليط من أصماغ وبلاسم رائحتها زكية حيث تحترق مُطلقة شذا عطر بديع. ويضيف الناس في بعض الأحيان عود الصندل وغيره من المواد ليعطي روائح خاصة. وكعادة المصريين أضفوا على تلك العادة الفرعونية القديمة مسحة دينية اسلامية.. فأشهر الباعة للبخور في أحياء القاهرة الدينية في القاهرة الفاطمية والمملوكية. مهن أخرى تقاوم قسوة الاندثار برغبة عارمة في الحياة رغم آلة الزمن الشرسة مازالت تحتمي بالشوارع الخلفية والحواري القديمة، فالقطان ـ أو المنجداتي ـ كما يطلق عليه المصريون.. يجلس بجوار جدار منزل قديم في وسط هالة قطنية بيضاء تتناثر حوله. منهمك في تشذيبها بمضربه الخشبي العتيق وآلته التي تشبه آلة الهارب الموسيقية القديمة. في عملية تنظيف وتسوية وتنقيح للقطن لأهل البيت اما استعدادا لعرس أو إعادة شباب أثاب المنزل المتهالك.. وكان دائمـا قدوم المنجداتي بشرى وايذانا بالفرح والعرس.. ويصاحب زغاريد النسوة في الحارة أو حتى في الريف.. وغناء لا ينقطع حتى ينتهي المنجداتي من تخييط وتطريز وإعداد مخدات ومراتب العروس. ربما لا يتبقى من المهنة سوى تاريخها إلا أن بعض أصحابها لديهم القناعة بأن «هناك فرقاً» فالجاهز من المراتب والمخدات لا يقارن بالعمل اليدوي الذي يقوم هو به! ولذلك فالناس مازالت تطلبه وتستعين به خاصة هناك في الحواري والأحياء القديمة. ومن المنجداتي إلى الحداد ومبيض النحاس تكتمل الصورة التراثية دون نشاز من أي دخيل ينتمي للعولمة والعصرنة والانترنت أو حتى الانترانت..!! عادل السنهوري