لا نأتي بجديد عندما نتحدث عن الأثر الكبير للحصار المفروض على العراق اثر غزو الكويت على عجلة الانتاج الدرامي، وبالتالي فقد تراجع انتاج الدولة وانتاج أكبر شركات الانتاج التلفزيوني في العراق، شركة بابل، لصالح شركات صغيرة ومنتجين صغار بدأوا يظهرون على السطح، وكانت نسبة غير قليلة من هؤلاء قدمت إلى التلفزيون من أسواق العملة والسمكرة ومجالات أخرى بعيدة تماما عن أوساط الفنون المعروفة، وقد انطلقت مع بداية عقد التسعينيات في العراق موجة انتاج الأعمال البدوية الرخيصة والتي أسهم فيها ممثلون كبار وصغار على حدّ سواء مادامت تلك الأعمال توفر للعاملين فيها ما يسدّ رمق عوائلهم التي بدأت تظهر عليهم آثار الحصار الشامل ماداموا هم ومن على شاكلتهم لا يمتلكون المهن التي أصبحت أكثر فائدة في الشهادات وحامليها أو طبقة المثقفين والمبدعين بشكل عام. الأعمال البدوية كانت تسوّق بشكل مُهين للفنان العراقي، إذ كثيرا ما كانت الشركات المنتجة فعليا لهذه الأعمال، ومقراتها على الأغلب خارج العراق وأموالها ليست عراقية هي الأخرى، تقوم بتغيير (شارة تايتل) تلك الأعمال لأنها تتضمن الأسماء العراقية كتبت ومثلت وصورت وأخرجت العمل ووضع شارة جديدة تتضمن أسماء غير عراقية من أجل تسويق مضمون. وعلى أية حال فقد سوّقت الدراما العراقية البدوية إلى أكثر من محطة ومع هذا التسويق الذي وفّر أرباحا معقولة للمنتجين ـ هم بالحقيقة يمثلون دور المنتج المنفذ ـ وللعاملين في تلك الأعمال الذين وجدوا فيها خلاصا من جوع مرّ وحاجة متزايدة.. وقد دفعت تلك الأرباح المتواضعة، بالقياس إلى أرباح منتجين وشركات انتاج غير عراقية، إلى ولوج أشخاص كثيرين ميدان الانتاج التلفزيوني بالمواصفات الخارجية غير العراقية، وهذه المرة تمّ الانفتاح على موضوعات معاصرة مشروطة لصالح السوق، ولأن الانتاج العراقي (الرخيص) دائما ليس أمامه أي بديل قرر الموافقة على تلك الشروط فظهرت موجة جديدة من الأعمال الدرامية المعاصرة هذه المرة، والتي كانت بالنسبة للمشاهد العادي بدون طعم ولا رائحة بل ان الكثير من تلك الأعمال لم يعرضها منتجوها داخل العراق نظرا لرداءة هذه الأعمال الشاملة! وما تقدم، كان الأرضية التي وقف عليها الانتاج الدرامي التاريخي في العراق، وبالطبع فقد سبق عقد التسعينيات انتاج أعمال درامية تاريخية عديدة لفتت الانتباه، ولكن الظروف الموضوعية لهذا الانتاج كانت مختلفة عن ظروف التسعينيات، وخاصة بحبوبة الوضع الاقتصادي للعراق بشكل عام، كما أن الدولة دعمت مثل تلك الأعمال باعتبارها «تعيد الوجه الحضاري القوي للأمة في أوقات عصيبة مرّ بها عراق السبعينيات والثمانينيات» إلا أن الملاحظ في ظاهرة موجة الأعمال التاريخية في تسعينيات القرن الماضي انها قد افترقت عن دعم الدولة باستثناء الجزءين الأول والثاني من مسلسل «حكايات المدن الثلاث» لعادل كاظم مؤلفا ومحمد شكري جميل مخرجا، وفي ماعدا ذلك اندفع المنتجون والمنتجون المنفذون في موجة قوية تجاه انتاج أعمال درامية تاريخية جاءت متساوقة مع موجة مماثلة اجتاحت الانتاج التلفزيوني العربي وكأنَّ الجميع يبحث عن تأصيل قطريته ووطنيته في مواجهة شعارات القومية العربية التي كانت سائدة في العقود السابقة. يلخص الممثل والمخرج والناقد العراقي سامي عبدالحميد مشكلات الدراما التاريخية العراقية والسبب في تراجعها كفن منافس بالقول: المسئولية بالدرجة الأولى تقع على الكاتب وكيفية توفيقه بين الدراما والتاريخ بحيث لا تطغى الدراما على الوثيقة التاريخية ولا تطغى الوثيقة على الدراما، بل يظهر الاثنان في الوقت نفسه وهذا يحتاج إلى الكثير من الخبرة والدراية بالتاريخ والتجربة الدرامية للمؤلف، فالسرد الطويل وعدم تنوع الأحداث يؤدي إلى ملل، وغالبا ما يقع الكاتب في العراق بهذه الهوّة وأحيانا يساهم المخرج في تعميقها عندما لا يوفر إيقاعا سريعا لأداء الممثل وتغير المشاهد وتنوعها. ويضيف عبدالحميد: وهناك أيضا أداء الممثلين باللغة العربية الفصحى الذي يتسم بطابع المبالغة، فنحن نبالغ في الإلقاء والتعبير الصوتي مما يضعف عنصر الاقناع هنا فتظهر الدراما التاريخية بشكل ضعيف، ثم ان المسلسل التاريخي يحتاج إلى ميزانية عالية لتوفير ديكور مناسب وأزياء مناسبة، لكننا نلاحظ أن أغلب المسلسلات التاريخية تأخذ ما تحتاج إليه من مسلسلات أخرى فتخرج غير متجانسة مع المرحلة التاريخية ومركزها، والمهم أيضا أن يكون المخرج دقيقا في اختيار الممثلين، تساعده في ذلك خبرته في اخراج هكذا مسلسل ولا يشترط أن يكون الممثل نجما حتى يحسن أداء الشخصيات، بل يجب أن يمتلك القدرة على ذلك. أما الكاتب الراحل معاذ يوسف فلديه معاناته التاريخية، وهو الكاتب الذي تخصّص طويلا في الأعمال التاريخية مقدّما للمكتبة التلفزيونية العديد منها كان آخرها مسلسل «أبو جعفر المنصوري» بطولة الفنان عبدالخالق المختار ومسلسل «المقتفي لأمر الله» وهو يقول عن المسلسل الأخير بعد أن شاهده على شاشة تلفزيون العراق: أنا كتبت للمقتفي نصا وسيناريو جيدا ولكنه ظهر بطريقة مختلفة عما كتبت ثم ان الممثلين الذين مثلوا الشخصيات لم يكونوا من النجوم بل أغلبهم من الوجوه الجديدة، لهذا جاء أداؤهم سيئا جدا، واستخدامهم للغة العربية كان ضعيفا. لهذا ـ كما نرى ـ ينشغل الممثل بحركات الحروف لغويا وبكيفية ضبط اللغة وينسى الأداء فيظهر أداءه خطابا ويشعر المشاهد بأن الممثل وكأنه يجرّ الكلمات جراً، العمل ليس فيه أية لقطة فنية، كأنه تصوير فوتوغرافي لممثلين جالسين في أماكنهم يتحاورون بحوار عادي وضعيف. وبالرغم من الانتقادات اللاذعة التي وجهها الكاتب معاذ يوسف لمخرجي أعماله فقد تصدى المخرج صلاح كرم لعمل جديد في أعمال الكاتب وعنوانه «أبو جعفر المنصوري»، وحول هذه التجربة يقول كرم: ان استحضار التاريخ بكل مفرداته ليست مسألة سهلة، وعلى الكاتب والمخرج أن يتحسسا أهمية المرحلة التاريخية ويعيد تجسيدها على الشاشة، ونحن نحاول أن نعيد التاريخ كما كان وأن نتعامل معه بصدق من خلال استخدام وجوه فنية معروفة، أي نجوم لها تأثير كبير، ثم ان التقنية يجب أن تكون متطورة وحديثة مع وجود مصحح لغوي لاتقان اللغة الفصحى، وعلينا تجنب السرعة فالمسلسل التاريخي تتنافى جودته مع سرعة إنتاجه، الملاك من «إنارة واكسسوار وأزياء» الذي يعمل هكذا أعمالا يجب أن يكون جيدا جدا ومن ذوي الخيال الواسع والمستوى الفني العالي.. ثم تأتي الموسيقى التصويرية، فعلى المخرج أن يعتمد موسيقى مناسبة تتناسب مع ذلك الحدث التاريخي وهذا يحتاج إلى وقت طويل من أجل الأفضل، ولكن أهم سبب يجعل الدراما التاريخية غير ناضجة لدينا هو تقنين النفقات فيخرج المسلسل بشكل غير جيد اضافة إلى عدم وجود أغلب المقومات التي ذكرتها والتي لا يستطيع العمل الاستغناء عن بعضها. وعلى الرغم من كل هذه الحقائق التي يقرّ بها أهل الحرفة في العراق، فإن العمل مازال جاريا لإنتاج أعمال تاريخية جديدة فلماذا هذه الحمى؟ لقد أفاد المنتجون العراقيون في مخازن الأزياء الكبيرة في دائرتي الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح، الأزياء التي استخدمت في الأفلام السينمائية العراقية التاريخية أيام الحرب مع إيران، مما جعلها تناسب، من وجهة نظر هؤلاء المنتجين، أي مسلسل تاريخي، وانسحب هذا الأمر على الاكسسوارات أيضا وحتى الموسيقى التصويرية. لقد خضع ـ كما أسلفنا ـ المسلسل العراقي المعاصر إلى مجموعة من اشتراطات السوق، ويتلخص طريق الافلات من هذه الاشتراطات بالذهاب إلى أماكن لا جدال عليها ولا نقاش فيها، ولعل التاريخ المتفق عليه هو الأبرز في ذلك، فالمعلوم أن ثمة تاريخا مختلفا عليه دائما وهناك أيضا التاريخ المتفق عليه، وهذا هو التاريخ غير الاشكالي والمناسب للجميع من دون خوف ولا وجل، والأمر مع الانتاج التاريخي العراقي عمل على هذا المنوال، فشخصية الخليفة العباسي أو العالم اللغوي أو النحوي تمتلك في الكثير من الأحيان الاتفاق اللازم لإنتاجها، وهكذا الأمر مع فترات معينة من تاريخ العراق كفترة النصف الأول من القرن العشرين «الاستعمار والملكية» وهي فترات لا تمسّ الرقيب أيضا الذي يخاف من الآن بالتحديد!، وقد أنتج ضمن هذه التواريخ مسلسلات عديدة منها «مناوي باشا» لعلي صبري مؤلفا ومسلسل «السياب» للراحل سامي محمد وبطولة الفنان حكيم جاسم وهما من اخراج فارس طعمة التميمي وكذلك مسلسل «ناظم الغزالي» و«القلم والمحنة» وغيرها الكثير.. ومن المرجح أن السوق العربية ستستوعب هذه الأعمال غير المشاغبة أو المدجّنة والخاضعة للاشتراطات وان كانت مواعيد عروضها ستظل أيضا في أوقات سالبة غير حيوية مادامت هذه السوق تضج بالأعمال المصرية والسورية.