أقامت وزارة الثقافة والاتصال الجزائرية مع اتحاد الفنون التشكيلية معرضا كبيرا تخليدا لروح الفنان التشكيلي الكبير محمد تمام صانع الطوابع البريدية ، الجزائرية ونياشينها يضم أكثر من أربعين لوحة من أشهر أعماله. ويدوم المعرض الذي تحتضنه أروقة المتحف الوطني للآثار القديمة سبعة أسابيع اعتبارا من الثامن من يونيو المعتمد في الجزائر كعيد سنوي للفنان. حضرت الافتتاح شخصيات بارزة في عالم الثقافة والفنون والسياسة وجمهور غفير من المولعين بالفنون التشكيلية. وكان المعرض فرصة كبيرة لانطلاق حوارات ولقاءات بين مجموعات من المبدعين وطلاب المدرسة العليا للفنون الجميلة حول سيرة الفقيد وعطائه غير المحدود للفن ومكانته وسمعته التي انتشرت في أهم مدارس التشكيل وأروقة العرض في العالم. وكان الفنان محمد تمام قبل وفاته عام 1988م قد ختم آخر أعماله الفنية وهما زخرفتان رائعتان، أولاهما وسام الإستحقاق الوطني في فترة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد وقد أنجزه بالذهب الخالص على جلد الغزال، وثانيهما جداريات عملاقة تزين إقامة الميثاق أهم الإقامات الرسمية بالعاصمة الجزائرية، وفي الفترة نفسها قام بمعاينة لوحات وتحف فنية جزائرية بالولايات المتحدة الأميركية عام 1987، باعتباره خبيرا فنيا لامعا. ويجمع محمد تمام بين أصول الفن الزيتي والثقافة الموسيقية ليساهم في التكوين والإرشاد على المستوى الداخلي والتعريف بالتراث الجزائري في الخارج، فأصبح من البديهي أن يجول اسمه بين أحاديث ونقاشات التشكيليين المعاصرين. ولا يخلو مجلس يجري فيه الحديث عن الفن من ذكر اسم محمد تمام باعتباره أحد أهم أعلام الزخرفة الإسلامية والمنمنمات والخط العربي. فكيف بلغ تمام هذه الدرجة من الإحترام والحضور الأبدي بين أذهان الفنانين؟ من أي باب دخل عالم الألوان، الظل والنور ورتوشات الريشة؟ لعل الذي جلب هذا القصباجي «نسبة إلى حي القصبة بالعاصمة الجزائر الذي ولد ونشأ فيه» إلى هذا الفضاء سنوات بعد ميلاده يوم 23 فبراير 1915 تلك الحركة الثقافية التي غمرت أزقة وشوارع الحي العتيق، وشكلت معلمها ورشات الحرفيين والمقاهي الشعبية، ملتقى الموسيقيين والشعراء والرسامين من بينهم الأخوان محمد وعمر راسم اللذان أحاطا بالطفل وشجعا ميوله الفنية، إذ علمه عمر راسم تقنيات المنمنمات عام 1931، بعدما تعرف على القواعد الأولى للرسم عام 1928 في مدرسة فنية خاصة بالجزائريين، أبرزت فيها مهاراته في تقليد الزخرفة الفارسية. ودفعته إرادته وتعطشه للمعرفة إلى اجتياز مسابقة الدخول إلى المدرسة العليا للفنون الجميلة بالعاصمة وقضى فيها ست سنوات عرف من خلالها بالطالب الذي يبحث دوما عن الجديد. واعتبارا لتفوقه وإبداعاته تحصل عام 1936وهو في سن الواحدة والعشرين على منحة الدخول إلى المدرسة العالية للفنون بباريس التي وجد فيها منبعا فياضا يتقصى فيه ما يجهله عن الفن الحديث بأوروبا ويتعرف على مستجدات الحركات الإستشراقية في البلدان العربية. ولم تمض عليه سنة في مدينة الأحلام حتى عاد إلى الوطن في ثوب الفنان الموهوب الذي صنع الحدث فنثر على المهتمين بالرسم ما أبدعته أنامله في معرض لوحات فريد لقي تغطية إعلامية مكثفة لما حمله من جديد وقد وصفته الصحافة الفرنسية بـ «الفنان الشاب مرهف الإحساس الذي عرف كيف يجمع بين الثقافة الشرقية والغربية» واستطاع الفنان الجزائري أن يشق في وقت قياسي طريقه بين المدارس الفنية المختلفة كالتكعيبية والانطباعية ويوظف أصول الفن الخادع ليعبر عن مواضيع اجتماعية تعكس الحياة بالقصبة، بالإضافة إلى تصويره للطبيعة الصامتة و المناظر الرئيسية في باريس. وتجلى ذلك خصوصا في لوحات مثل «حي القرميد» و«سمفونية رمادية» وغيرهما. ومن أعماله أيضا في هذه الفترة زخرفته لصفحات من القرآن الكريم للإمبراطور الهندي «أورانجزاب» وتشكيله لمنمنمة «آدم وحواء» باللباس الجزائري. ويظهر عدد من أعماله تأثره بفنانين أوروبيين أمثال «سيزان» و«بوسان» و«جوجان» مع الميل بعض الشيء إلى المدرسة الواقعية الإيطالية. بعد إنهاء دراسته بالمدرسة عام 1939 جند إجباريا في الجيش الفرنسي حيث كانت الجزائر وقتها مستعمرة فرنسية وتسري على أبنائها القوانين الفرنسية. فذاق ويلات الأسر لمدة ثلاث سنوات كاملة اعتبارا من يونيو1940. بعدها أوكلت له مهام زخرفة الهدايا الرسمية التي تقدمها الرئاسة الفرنسية للملوك والرؤساء. وقاد ورشة «سيفر» للزخرفة. وشارك سنة 1944 في معرض المنمنمين الجزائريين الذي نظمه التشكيلي عمر راسم وتلامذته في الجزائر ونالت لوحاته شهرة كبيرة بعدما شارك في معرض كبير جاب الدول الاسكندنافية علم 1946. وكغيره من الجزائريين تأثر الفنان محمد تمام بالمجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي في 8 مايو 1945 بعدد من مدن شرق الجزائر خاصة سطيف وقالمة وخراطة ليفتح عينيه على واقع آخر، فباريس لم تعد كما يعرفها مدينة للفن والأحلام لكنها عاصمة للظلم والطغيان. فتغيرت أشياء كثيرة في حياته ودفعه الواقع الى اعتناق قضية وطنه فقاطع العمل بالورشة الرئاسية وانضم إلى العمل الوطني المغتربين الجزائريين. ليعيش معهم إرهاصات الثورة الجزائرية. فعانى من الحرمان وبحث عن مصادر أخرى للارتزاق بالجزائر العاصمة فوجدها بين أوتار آلة القيثارة التي ترافقه في المقاهي والملاهي الليلية. مع هذا لم يبتعد كثيرا عن الريشة فربط بين الموسيقى والرسم وصار يزين أغلفة أسطوانات المطربين منهم محمد عبد الوهاب ومحمد الماروكان وتعرف على بيكاسو وبلمندو، كما ثابر على المشاركة في المعارض التشكيلية المقامة في إطار صالون الرسامين المغاربة. وبعد استقلال الجزائر عام 1962 صار محمد تمام محافظا في أقدم متحف ببلاده وهو متحف الفنون الجميلة ونظم أول معرض للفنون الإسلامية عام 1966، كما ساهم في تأسيس الاتحاد الجزائري للفنون التشكيلية عام 1967. وصمم أكثر من70 طابعا بريديا وعددا كبيرا من الأوراق النقدية. وأنجز عام 1976 الزخارف التي تزين جدران وقاعات فندق الاوراسي أكبر الفنادق الجزائرية وصمم كذلك الأوسمة الرسمية والنياشين ومنها شهادات المجاهدين والشهداء ومعطوبي الثورة التحريرية وأصحاب الرتب والدرجات في مصف الإستحقاق الوطني رفقة أشهر الخطاطين من بينهم محمد شريفي عبد الحميد اسكندر. هكذا عاش الفنان محمد تمام تقلبات الوضع في بلده في الفترة الاستعمارية وبعد الاستقلال وتعرف الأجيال أعماله الخالدة وتعرف عنه أنه الفنان الذي ولد كبيرا ومات كبيرا وكون جيلا كاملا من الأتباع. والأكيد أن بصماته لن تغيب وان في شكل أعمال بتوقيع اسماء أخرى. الجزائر ـ مراد الطرابلسي: