البرتو مورافيا كاتب ايطالي ولد في روما سنة 1907، عمل صحافيا وكتب القصة القصيرة والرواية وأصبح من أشهر كتاب ايطاليا في القرن العشرين، ينحدر من أسرة نصفها يهودي ونصفها مسيحي كاثوليكي. أصيب مورافيا وهو في سن التاسعة، بعدوى مرض السل الذي أنهك جسمه في الفترة ما بين 1916 - 1925 وظل وهو يتلقى العلاج رهين المصحة. وخلال هذه الفترة شرع مورافيا في الكتابة كما درس اللغتين الانجليزية والفرنسية. تزوج سنة 1941 من إيلسا مورانت التي اشتهرت ككاتبة أيضا. وفي أعمال مورافيا الأدبية التي تميزت بالبراعة والإغراق في الواقعية والنفاذ إلى أعماق النفس البشرية هاجم مورافيا الفساد الأخلاقي في ايطاليا وصور شخصيات معزولة اجتماعيا ومفلسفة عاطفيا. نشر مورافيا روايته الأولى «زمن اللامبالاة »- Time of Indifference سنة 1929 وهي من الروايات الأولى التي تناولت الفلسفة الوجودية، وتحدث فيها عن أسرة من الطبقة المتوسطة دب فيها الفساد الأخلاقي وصورها وهي تمد يد المساعدة إلى الفاشية الايطالية. كما كتب رواية «السأم» التي حازت على جائزة فيارجيو وهي أكبر جائزة أدبية في ايطاليا. ومن رواياته «دولاب الحظ» سنة 1939 ، «إمرأة من روما» سنة 1947، وفيها هجوم على قيم الطبقة المتوسطة، «إمرأتان» سنة 1947، «العصيان» سنة 1948 ومن مجاميعه القصصية «حكايات من روما» سنة 1954، «الفردوس» سنة 1970، وتحول العديد من رواياته إلى أفلام سينمائية، كما ترجمت معظم أعماله إلى عدة لغات عالمية. ومما يميز أدب مورافيا تبسطه في سرد مشاعر الجنس لدى أبطاله والأحداث التي تنشأ عبر تلبية تلك المشاعر والرغبات، وفيها يبتعد عن طابع الإثارة الممجوجة، غير أنه يمتاز بالتركيز على التحليل النفسي لنوع العلاقة بين الجنسين أو الزوجين. وفي رواية الاحتقار - موضوع بحثنا - خير مثال على ذلك، وفيها يصور حياة اجتماعية جرت وقائعها في ايطاليا ترتكز في تسلسلها على زوجين تفاوتت ثقافتهما، وكيف يطيح شعور الاحتقار بالحب بين الزوجين وكأنه نوع من الأحماض يصيب أحد المعادن فيجعله في النهاية يتآكل حتى لا يبقى منه شيء. كانت اميلي نموذجا لربة بيت صالحة، محبة لزوجها، وبيتها، حتى إن هذا الحب يمكن وصفه بأنه أكثر من الميل الطبيعي المشترك بين جميع النساء®. شيء أشبه بهوس عميق! نوع من النهم الذي كان يتجاوز شخصها ويبدو وكأن له أصلا عريق القِدم. كانت أسرتها فقيرة، وكانت هي نفسها حين تعرفت عليها ضاربة على الآلة الكاتبة. وأعتقد أنه كان في حبها ذاك لبيتها تعبير غير واعٍ للأماني المكبوتة التي يُحس بها الاشخاص المحرومون من الأرث، العاجزون أبدا عن امتلاك مسكن لهم مهما بلغ من التواضع. ولست أدري إن كانت اميلي، حين تزوجتني، قد راودها تحقيق آمالها البورجوازية . هكذا تحدّث زوج أميلي ريشار عن زوجته في الرواية بصيغة الراوي. ورغم أنهما عاشا عامين كاملين في غرفة مفروشة، بسيطة الاثاث فإن الراوي أو ريشار تحدث عن زوجته قائلا: كانت تريد أن تضفي على هذا الأثاث البائس روحها البيتية المنظمة . كان مكتبي مزدانا دائما بالزهور، وكانت أوراقي مرتبة في حب، وموضوعة بشكل موحٍ كما لو أنها تدعوني إلى العمل وتؤمّن لي الحد الأعلى من الصميمية والطمأنينة، ولم تكن طاولة الشاي الصغيرة لتفتقر قط إلى علبة بسكويت. لقد كانت اميلي بعد ضربة المكنسة الأولى لربة البيت تُخضع الغرفة لتنظيف آخر، أطول وأدق! ومع ذلك فإن الغرفة المفروشة رغم جهودها المؤثرة كانت تظل غرفة مفروشة. وكان ريشار، الحالم بالمجد الأدبي ككاتب مسرحي وبعد كل هذا التصور، حلت في داخلة صورة جديدة لنفسه، صورة الإنسان المسكين المأخوذ أخذا مأساويا في شرك! وأنه موشك أن يضطر إلى التخبط فترة لا يعلم إلا الله مداها في أهوال الفاقة المميتة. وأنه لم يعد عبقري المسرح، الشاب الذي لا يزال مجهولا. بل الصحافي الجائع، المحرر في المجلات والجرائد الثانوية، وفي الليل يستيقظ مذعورا وهو يفكر في ديونه®. إنه بالاجمال، لم يكن يفكر إلا بالمال. حتى تراءت له روحه بالصورة التالية كما وصفها: وعلى غرار قضيب من الحديد يلين حين تمسه نار ملتهبة، كنت أحس روحي تلين وتنثني تحت الهموم التي كانت تأكلها. . ولأنه فارغ الجعبة فهو يحلم بالانبعاث الجديد للأنسانية! هكذا كانت حياة هذه الأسرة الفقيرة المتواضعة قبل أن يلتقي الراوي مع باتيستا الذي كلفه بكتابة عدة سيناريوهات لأفلامه، وهو الأمر الذي بعث الأمل من جديد لتحسين وضع الأسرة وتسديد قيمة الشقة الصغيرة التي اشتروها مؤخرا في هذه الظروف الحالكة، ولتجديد ذلك الحب الذي بات يخبو تحت وطأة الفقر، ولعل التصاق جسد اميلي بجسد زوجها وضمها له بقوة مع أول زيارة لهما للشقة الفارغة، واغراؤه حتى أنهما مارسا الحب على البلاط المغبر، فالراوي ريشار الذي ألِفَ تحليل نفسه قال عن تلك الحادثة: استشعرت في حميا تلك الضمة العجيبة شيئا آخر غير الحب الذي كانت اميلي تحسه في تلك اللحظة نحوي، كان يمتزج فيه كل اندفاع عاطفتها المكبوتة كربة بيت كانت تعبر عن شعورها بشهوانية غير مألوفة، كانت في تلك الضمة المستهلكة على الأرض المغبرة، في ظلٍ مثلوج لغرفة لا تزال فارغة إنما تستسلم للواهب لا للزوج، وان تلك الغرف العارية المصدية التي تحمل رائحة البرنيق والجص القريب العهد قد حركت في أعمق أحشائها شيئا لم تستطع أية مداعبة من مداعباتي حتى ذلك الحين أن توقظه. وهو الأمر الذي أنعش الأمل بتوثيق العلاقة بينهما أكثر. ولكن ذلك الأمل لم يدم طويلا، فها هي اميلي تأخذ وسادتها لتنام وحيدة في غرفة الاستقبال متحججة بحجج واهية مثال أنها لا تستطيع أن تنام والنافذة مفتوحة كما يرغب زوجها، وحتى بعد أن أبدى زوجها ريشار استعداده للتضحية بعادته تلك واغلاق النافذة قالت اميلي بتصميم غير متوقع :لا، انني لا اريد أية تضحية، لا كبيرة ولا صغيرة ®. سأنام في غرفة الاستقبال. وبقي ريشار وحيدا جالسا على السرير، بوسادته الوحيدة وقد بدأ يوحي بالفراق والهجر ثم كان السؤال النهائي بعد الاستغراق في الأفكار : أتكون زوجتي قد كفت عن حبي؟ وفي الوقت نفسه كان يبعد هذه الأفكار، لفرط خوفه بلا وعي، وهو الأمر الذي ارتبط بفعل الحب بين حين وآخر ممزوجا بالارتباك والوحشية ومن غير أدنى مشاركة حقيقية من قبل اميلي، في ظل اشمئزاز متزايد يوما بعد يوم، ولم يتمكن من منع نفسه من التفكير فيما بعد أن اميلي كانت تتصرف كمومس خاضعة لزبونها وتتمنى بكل بساطة أن يتم الأمر بسرعة. هكذا تخلى ريشار مؤقتا عن مطامحه المسرحية وكرس نفسه للسينما ارضاء لرغبة اميلي في امتلاك منزل، أما بعد تلك الليلة فقد بدا له مرة واحدة أن شعورا بالخيبة والقلق والنفور الغامر وأن عمله كسيناريست أصبح يفقد معناه ويترك حوله بصمة العبودية المحضة. ومنبع كل ذلك هو كف اميلي عن حبه! وعندما صارحها بمشاعره تلك في حوار طويل قالت : ما الذي ستفعله لو كففت حقا عن حبك؟ ظل ريشار مشدوها بعدما كلفه باتيستا بصفته منتجا التعاون مع المخرج رينغولد لوضع سيناريو لملحمة الأوديسة التي كتبها شعرا هوميروس، لا لأنها ملحمة طويلة جدا تتألف من 33.333 بيتا من الشعر فحسب، بل لأنهما أرادا منه تصوير فكرة رجل يحب إمرأته وهي لا تحبه، وهي الفكرة التي اعتمدت عليها الملحمة لتصوير العلاقة بين يوليسوس وبينيلوب. وسرعان ما تذكر ريشارعلاقته مع اميلي. وهكذا وجد نفسه وكأنه باحث في الأدب المقارن، يقارن بين علاقة قيس وليلى من جهة وبين علاقة روميو وجوليت من جهة أخرى، مع فارق واحد، أن عليه البحث في الكراهية لا في الحب وأن عليه أن يتقمص روح فرويد في التحليل النفسي، حتى أنه قرف من مهنته كما قرفت منه اميلي. والذي كان يعذبه من كل ذلك أن اميلي لا تملك شيئا ضده، ورفضت تقديم أي تفسير لكراهيتها التي اعترفت بها مؤخرا. وعندما ألح في معرفة السبب قالت: انني احتقرك! هذا هو الشعور الذي أكنه لك، والسبب الذي من أجله لم أعد أحبك! انني احتقرك واشمئز منك حين تلمسني®. لقد أردت الحقيقة: انني احتقرك واشمئز منك! ورغبة في الهروب من واقعه المرير والمؤلم حاول ريشار أن يحلم بعودة اميلي إليه مملوءة بالحب، لكنه أفاق على حقيقة أكثر إيلاما عندما اكتشف أن اميلي تخونه مع باتيستا..!! توفى البرتو مورافيا في 26 سبتمبر سنة 1990 في مدينة روما التي عاش فيها جل حياته ولعبت دورا مهما في رواياته.