لا يبدو عامل الزمن الممتد إلى أوائل الثلاثينات ذا تأثير كبير على سلمى الشرهان التي مازالت تتذكر الكثير من الأحداث التي عاصرتها وكونها واحدة من الرعيل الأول الذي انخرط في العمل واختيارها لمهنة كانت هي الأبعد عن فتاة الإمارات في ذلك الوقت، يأتي أهمية اللقاء مع سلمى التي سجلت اسمها كأول مواطنة تمارس مهنة التمريض.

ورغم عمرها المديد 75 عاماً وخطوط الزمن التي رسمت على محياها إلا أنها تصر على أنها شاهدة عيان على عصر انتصر فيه عقل الإنسان على كافة صعوبات الحياة ليطوع ما يتاح من إمكانيات لصالح الإنسان. في إمارة رأس الخيمة كان ميلاد سلمى سالم الشرهان وكأي فتاة لم يكن حلمها العمل في هذه المهنة التي قادتها الصدفة البحتة إليها حينما اختارها أحد الشيوخ لتكون ممرضة ولم يكن عمرها يتجاوز عمرها الرابعة عشرة، حيث تقول سلمى أنا محظوظة، حيث وقع علي الاختيار لأكون أول مواطنة اعمل في هذه المهنة، وبعكس ما يظن البعض عن هذه الفترة فأنا لم أمارس مهنة التمريض إلا بعد تدريبي وإعدادي جيدا في صيدلية النخيل التي كانت عبارة عن صيدلية وعيادة وكانت تابعة حينئذ للمجلس البريطاني الذي كان يشرف على رعاية القطاع الصحي في الدولة.

وكان تدريبي على يد أمهر الأطباء والطبيبات الذين زاروا الإمارة خلال هذه الفترة ومنهم صديقة عمري الدكتورة فيوز وهي بريطانية الجنسية، وتعلمت منها النقاط الدقيقة للتمريض، وعملت معها فترة طويلة و بعدها انتقلنا إلى مستشفى النخيل الذي تم افتتاحه سنة 1961 من قبل المجلس البريطاني.مشيرة إلى أنها كانت تسكن في رأس الخيمة، ومستشفى سيف بن غباش كان على الضفة الأخرى من الإمارة في النخيل وكانت تستقل «العبرة» وتكمل مشياً على الأقدام حتى الوصول إلى المستشفى.

وعن انطباع الأهل عن امتهان سلمى التمريض أشارت إلى أنهم في البداية عارضوني بشدة ولكن حينما علموا بمقدرتي الجيدة على العلاج ومساعدة المرضى تقبلوا الأمر بل ساعدوني وشجعوني على ذلك، والغريب ان قريناتي في هذه السن الصغيرة كن يسخرن مني لكون المهنة غريبة على بنات الإمارات في ذلك الوقت لكن بعد ذلك اثبت لهن مدى حاجة المجتمع للممرضة المواطنة، حيث ولدت معظم النساء على يدي بالإضافة إلى صديقاتي اللاتي كنت امزح معهن وأطالبهن بالاعتذار لي قبل توليدهن.

وتحدثت عن الصعوبات التي واجهتها خلال أداء عملها وقالت إن عملية التنقل إلى الأماكن النائية هي أهم الصعوبات التي واجهتني، حيث لم تكن هناك وسائل مواصلات في تلك الفترة بين الجبال والوديان إلا المشي على الأقدام أو امتطاء الدواب التي اضطررت إلى امتطائها للوصول للمرضى أينما كانوا وأنا كنت أجد سعادة بالغة في علاج المرضى أو توليد النساء بالأسلوب الذي تعلمته ولهذا فقد ذاع صيتي وشهرتي بسرعة بين الأهالي الذين كانوا يطلبوني بالاسم، وأوضحت أنها بعد فترة تولدت لديها خبرة طويلة ساعدتها على التعامل مع الأطفال الخدج بوضعهم في كراتين وتغطيتهم لعدم توفر «الحضانات» حينئذ وهي فكرة تعلمتها من صديقتي فيوز.

وتتذكر سلمى كيف كانت تنام تحت الأشجار وتتوسد حقيبتها التي كانت تحمل بداخلها الإبر وأدوات التعقيم وكانت غالية وكانت تخاف عليها، وتتنقل بها من مكان إلى لتطعيم الأهالي ضد مرض الملاريا الذي كان منتشراً في تلك الحقبة، وتؤكد أنها كانت ممرضة شاملة لكافة التخصصات وتعلمت ذلك على يد الأطباء الذين كانوا يزورن الإمارة آنذاك، ومنهم أطباء الأذن والأنف والعيون والجراحة وغيرها من التخصصات، وكنت أجتهد بالعمل ليل نهار، وأذهب لمناطق نائية جبلية أدخل الوديان والمنحدرات ويذهب التعب عني مباشرة حين أرى فرحة الأهالي والأطفال بقدومي.

وعن مكافحة انتقال الأمراض والوسائل المستخدمة في هذه الفترة أشارت سلمى إلى أن أول تدريب تلقيته هو كيفية تعقيم المواد المستخدمة في التطبيب خاصة ابر الحقن التي كانت تستخدم أكثر من مرة وأنا لم انس هذه التعليمات ولم أهمل فيها طوال عملي حيث كنت أحمل، «الشولة» ـ موقد صغير ـ لتعقيم الإبر في الماء المغلي قبل استخدامها.

لكن الجزء المهم من عملها كما تقول أول ممرضة مواطنة فقد كان توليد النساء وهذا الجانب رغم التعب الناتج عنه إلا أنني كنت افرح كثيرا حينما أجد الأهالي يطرقون علي الباب ليلاً لمساعدتهم على توليد النساء رغم كوني مرهقة من العمل بالنهار، وكان البعض يحضرون لي الدواب لأمتطيها ثم نذهب بالسيدة للمستشفى حيث يتم توليدها هناك إذا كانت قريبة من المستشفى، وتؤكد أن الأطباء طيلة فترة عملها كانوا يقدرونها للغاية وكانوا يعاملونها كطبيبة لا كممرضة وهو ما كان يجلب السعادة إليها ويزيد من إصرارها على العمل والعطاء.

وتقول الدكتورة شيخة المزيود طبيبة في مستشفى عبيد الله وسيف بن غباش برأس الخيمة والذي تقيم فيه سلمى حاليا ان المسؤولين في الإمارة وكذلك المسؤولين في وزارة الصحة يسارعون بالسؤال عن سلمى في كافة المناسبات التي يشهدها المستشفى وكونها علما من أعلام التمريض في الإمارات فإن الوزارة تعاملها معاملة كبار الشخصيات حيث خصصت لها حجرة منفصلة بالمستشفى، بالإضافة إلى الخدمات الأخرى التي تقدم لها وأنواع الأطعمة التي تقدم لهذه الشخصيات.

لافتة إلى أن إعجابنا بها في المستشفى لا يوصف خاصة وهي في هذه السن وإصرارها على الاحتفال بعيد الاتحاد على طريقتها الخاصة، حيث تطلب المزيد من أعلام الدولة وتتصل بأحد أقاربها الذي ينقلها إلى بيتها لتعليق الأعلام والزينة بنفسها احتفالاً بهذه المناسبة الغالية وهي تفسر ذلك بأن مناسبة الاتحاد مناسبة فارقة في حياة كل الإماراتيين خاصة كبار السن الذين كانوا شهودا على الفترات الصعبة في الماضي.

وأشارت الدكتورة شيخة إلى أن سلمى لم تكن ممرضة فحسب حيث كانت تساعد الأهالي على توصيل وجهة نظرهم للأطباء الأجانب بالشرح لهم بدقة هذه الاحتياجات إضافة إلى معرفتها لكافة الأهالي والأمراض التي كان يشتكي منها كل مراجع وكانت تسارع إلى شرح أي حالة وتطوراتها للطبيب المعالج.

وقالت نعيمة سعيد زوجة أخ سلمى الذي توفي منذ سنوات أن سلمى كانت وحيدة أمها وكانت أكبر من أخويها وكانت تحب العمل كثيراً، ومازالت محبوبة من الأهالي سواء الذين عاصروها أو الذين سمعوا عنها فيما بعد، مشيرة إلى أن سلمى تفضل البقاء في المستشفى الذي أفنت فيه حياتها في العمل العام.

رأس الخيمة ـ محمد صلاح