منذ طفرة الذكاء الاصطناعي بدءاً من «شات جي بي تي» في 2022، بات استيلاء هذه التقنية على وظائف البشر من أبرز المخاوف لدى العاملين في مختلف القطاعات بدون استثناء. ويعد عالم تطوير البرمجيات أحد العوالم المثيرة للاهتمام فيما يتعلق بدراسة علاقتها بالذكاء الاصطناعي.
فمن ناحية متوسط الأجور، يعتبر المبرمج ضمن أعلى 5% أجراً في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني، وفقاً لـ«ذي إكومونيست»، أن المبرجين أعلى دخلاً من المهندسين النوويين، وذلك بفضل الطلب الهائل عليهم من كل الشركات تقنية أو غير تقنية، مع التوجه الحالي عالمياً إلى الرقمنة؟
كما أن البرمجة من أبرز المجالات التي يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يذهب فيها بعيداً حتى الآن، ربما أكثر من أي مجال آخر، نظراً لأن لديه قابلية الولوج إلى كل مواقع ومنتديات البرمجة مثل GitHub وStack Overflow على كم هائل من البيانات والمعلومات والأسئلة البرمجية وإجاباتها، بل أن تلك الإجابات مصنفة وفقاً لملاحظات أعضاء تلك المنتديات من المبرمجين، إضافة إلى اختبارات التحقق من صحة البرمجة، وكل هذا ربما لا يتحقق للذكاء الاصطناعي في أي مجال آخر.
وأظهرت البيانات أن أكثر من مليوني شخص اشتركوا في الخدمة المدفوعة من أداة كوبايلوت التابعة لمايكروسوفت، والتي يمكنها توليد أسطر عدة من الأكواد في ثوان معدودة، 90% منهم يعملون في أكبر 100 شركة في الولايات المتحدة. وفي عام 2023 دشنت شركة ألفابيت، الشركة الأم لغوغل، وميتا الشركة الأم لفيسبوك أدوات للذكاء الاصطناعي، ثم تبعتهما أمازون وآبل، ما يشير بوضوح إلى الفائدة التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي للمبرمجين بشكل خاص.
لكن على الجانب الآخر، فإن أدوات الذكاء الاصطناعي رغم الطفرة التي شهدتها في آخر عامين، مازالت محدودة القدرات ولم تصل إلى الجودة التي يمكنها منافسة المطورين البشر حتى الآن.
في استطلاع رأي لشركة «إيفانز داتا» المتخصصة في الأبحاث والدراسات، سألت المبرمجين عن الوقت الذي توفره لهم أدوات الذكاء الاصطناعي، فكانت الإجابة الأكثر حصولاً على أصوات هي «من 10 إلى 20%». لكن في الحقيقة، وجدت دراسة أجرتها شركة «غيتكلير» المتخصصة في البرمجيات أن جودة البرمجة تراجعت بشكل ملحوظ في العام الماضي، موجهة أصابع الاتهام إلى أدوات الذكاء الاصطناعي، أو للمبرمجين الذين اعتمدوا على أدوات الذكاء الاصطناعي إذا تحرينا الدقة.
وفي استطلاع رأي آخر أجرته شركة الأمن السيبراني Synk أن أكثر من نصف المؤسسات اكتشفت مشكلات أمنية مع الأكواد التي تم توليدها من قبل أدوات الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاقتصادي من وجهة نظر الشركات
على الصعيد الاقتصادي، تؤمن الشركات بأن الذكاء الاصطناعي في طريقه إلى التطور بسرعة، ما من شأنه أن يوفر الملايين عليها، مثلما حدث مع شركة أمازون التي أعلنت مؤخراً توفير 260 مليون دولار من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي لتحويل الآلاف من تطبيقاتها من لغة برمجية إلى أخرى.
وفي السابق، كان تطوير تطبيق صغير يتطلب فريقاً من 6 أشخاص يعملون على أجزاء مختلفة من التطبيق، مثل واجهة المستخدم أو البنية التحتية، أما الآن، فقد تغير الوضع وارتفع عدد الشركات الناشئة التي تعتمد على عدد أقل من الموظفين، حيث بات يمكنهم القيام بمهام عدة بشكل أسهل مع الذكاء الاصطناعي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمع تطور الذكاء الاصطناعي، لم يعد الأمر يحتاج إلى مطورين متمرسين كما كان في السابق، وخاصة مع الاتجاه المتزايد نحو منصات «البرمجة الصفرية»، التي تسمح لأي شخص بكتابة البرمجيات، يكفي فقط أن يشرح بالكتابة ماذا يريد وسوف تقوم أدوات الذكاء الاصطناعي ببرمجته دون أن يكون لديه أدنى معرفة بالبرمجة. فعلى سبيل المثال، يستخدم بنك البرازيل منهج «البرمجة الصفرية» للسماح لموظفيه بتطوير تطبيقات لعملائهم الباحثين عن خدمات وعروض البنك.
كل هذا من الطبيعي أن يثير مخاوف وتساؤلات بعض المبرمجين من حول العالم، حتى وإن كان الوضع حالياً لا يسمح للشركات بالاستغناء عنهم نظراً لعدم وصول الذكاء الاصطناعي إلى هذا المستوى من التطور. لكن على الجانب الآخر، فإن عدداً آخر من المطورين يرون أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستقوم بالمهام المملة في تطوير البرمجيات، بينما سيجد المطورون وقتاً أكثر لحل المشكلات الأكثر تعقيداً.
حتى الآن، المعادلة تبدو كالتالي؛ عمالة ذات أجور عالية يمكن الاستغناء عنها رويداً رويداً أو على الأقل تقليل عددها مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، بينما على الجانب الآخر يأمل المطورون في أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى حد مساعدتهم بكفاءة، ومع ذلك يسمح لهم بالبقاء في وظائفهم.