كيف خذلت "الرأسمالية الصناعية" الحلم الأمريكي؟

شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الحقبة الذهبية للصناعة الأمريكية
شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الحقبة الذهبية للصناعة الأمريكية
ترامب بنى سياساته للفوز بالرئاسة على استعادة مكانة أمريكا وعلى رأسها التصنيع
ترامب بنى سياساته للفوز بالرئاسة على استعادة مكانة أمريكا وعلى رأسها التصنيع

رغم الصدمات التي يثيرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الرسوم الجمركية، وإجماع العالم على أنه يضر بالجميع، فإنه من ناحية أخرى لا يمكن عدم تفهم أن طروحات ترامب تنتمي لمسار من الرأسمالية الصناعية الأمريكية المتلاشية بسبب تباين قوانين التجارة العالمية، فالجناح الصناعي من الرأسمالية الأمريكية غادر الأراضي الأمريكية بشكل قانوني، حيث أتاحت له التشريعات التجارية المنتمية إلى العولمة الاقتصادية، حرية مكان التصنيع مع بقاء المنتج أمريكياً، فكانت النتيجة أن الشركات الصناعية الكبرى زادت من ربحيتها بانتقالها إلى دول ذات عمالة رخيصة وتكاليف تشغيلية أقل، الأمر الذي أفقد سوق العمل الأمريكي مزايا توطين الصناعات داخل أمريكا.

ترامب لا يريد فقط عودة المصانع الأمريكية إلى أمريكا، بل أن يستقطب أيضاً مصانع العالم. فالرأسمالية الأمريكية الصناعية باتت تتهرب من صناعة الحلم الأمريكي الذي تلاشى تحت الضغوط الاقتصادية.

يمكن تلمس هذه الفجوة لدى الاطلاع على أرقام نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال" عن كيفية فقدان الولايات المتحدة مكانتها كقوة صناعية عالمية عظمى. ففي خمسينيات القرن الماضي، كان حوالي 35% من وظائف القطاع الخاص في الولايات المتحدة في قطاع التصنيع. أما اليوم، فهناك 12.8 مليون وظيفة صناعية في الولايات المتحدة، أي ما يعادل 9.4% فقط من وظائف القطاع الخاص.

قبل الإجابة عن سؤال كيف حدث هذا النزوح، لا بد من العودة إلى قبل ذلك، وهو لماذا؟

يمكن التقاط مؤشرات اقتصادية وسياسية عدة في العقود الأخيرة حول ارتفاع جاذبية الصين للفرص الاستثمارية في العالم. الاستنتاج هو أن جاذبية الأرباح والفرص في السوق الصينية، والأسواق الآسيوية، تتغلب على أي اعتبارات أخرى في السياسات الأوروبية والأمريكية، وهذا يعود إلى طبيعة النظام الاقتصادي في الصين، والذي ينطبق عليه إلى حد بعيد وصف عالم الاجتماع البريطاني، أنتوني جيدنز، للتمييز بين نوعين من الإنتاج، هما النزعة الإنتاجية (productivism) والإنتاجية (productivity). ما يحدث أن سوق العمل في عموم المجتمعات الغربية، ذات الإنتاجية المحكومة بمنظومة قوانين تفرمل الأرباح لصالح صيغة «دولة الرفاه» أو الإنفاق الحكومي على الرعاية، لم تعد جذابة للشركات المرهقة من الضرائب، مقارنة بالفرص التي توفرها النزعة الإنتاجية التصاعدية في الصين وآسيا، والمفتوحة على الأرباح بقدر تصاعد الإنتاج في سوق ضخمة لا مثيل لها في عالم اليوم.

مرحلة "قطع الغيار"

في أوائل القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة رائدة في استخدام الأجزاء القابلة للتبديل (قطع الغيار) وعوامل التنظيم في الإنتاج الضخم. وقد أدت الحرب العالمية الثانية إلى زيادة هائلة في القدرة التصنيعية، لكنها في الوقت نفسه قضت على المنافسين، كما تشير سوزان هيلبر، الخبيرة الاقتصادية في جامعة كيس ويسترن ريزيرف.

في سنوات ما بعد الحرب، انضم المزيد من الأمريكيين إلى الطبقة الوسطى، مما أدى إلى قفزات في الإنفاق على السلع المعمرة طويلة الأمد، مثل السيارات والأجهزة المنزلية التي اشتروها حديثا. وكانت أمريكا أكبر مشتر للسلع المصنعة.

كانت العديد من هذه السلع عالية التقنية في ذلك الوقت، مثل غسالات الصحون وأجهزة التلفزيون والطائرات النفاثة، والتي غالبا ما نتجت عن مجموعة من الابتكارات التي طُوّرت خلال الحرب. كان تصنيعها في أمريكا، على عكس بعض الدول الأخرى، منطقيا لأن البقاء في طليعة الصناعة يتطلب فرق بحث وتطوير تعمل بشكل وثيق مع المصانع.

ومما ساعد أيضا أنه بفضل حركة التعليم الثانوي التي بدأت في أوائل القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة تمتلك القوة العاملة الأكثر تعليما في العالم.

أزمة الثراء!

بعد خمسينيات القرن الماضي، بدأ دور التصنيع في الاقتصاد الأمريكي بالتراجع. ويعود ذلك جزئيا إلى ازدياد ثراء الأمريكيين، وتخصيصهم المزيد من إنفاقهم للخدمات، مثل السفر والمطاعم والرعاية الطبية. ووفق تعبير سوزان هيلبر، الخبيرة الاقتصادية: "تزداد ثراءً، ولا يمكنك شراء سوى عدد محدود من السيارات، فتبدأ بشراء الخدمات".

أسفر هذا المستوى من الإنفاق عن زيادة في الوظائف، حيث ذهب المزيد من الناس للعمل في قطاع الخدمات، مثل الفنادق والبنوك ومكاتب المحاماة والمستشفيات. شهدت الوظائف الصناعية تقلبات مع فترات الركود والانتعاش، ولكن من منتصف الستينيات وحتى أوائل الثمانينيات، استقرت العمالة في قطاع التصنيع بشكل كبير، مع نمو وظائف الخدمات بشكل متزايد.

وضمن هذا السياق، حدثت أيضا تحولات في أماكن تصنيع العديد من السلع غير المعمرة التي يشتريها الأمريكيون، مثل الملابس. انتقل جزء كبير من الإنتاج إلى ولايات الجنوب داخل أمريكا، حيث كانت تكاليف العمالة أقل.

في ذلك الوقت، بدأت المناطق الأقل نمواً في العالم، حيث كانت تكاليف العمالة أقل بكثير، في زيادة تصنيع السلع غير المعمرة في أمريكا اللاتينية وآسيا. وبدأت الولايات المتحدة في استيراد المزيد من هذه السلع. ومع مرور الوقت، حدث الشيء نفسه مع السلع المعمرة الخفيفة، مثل الخلاطات.

صدمة الصين

في ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الأمور تتغير. وتشير سوزان هاوسمان، الخبيرة الاقتصادية في معهد دبليو إي أبجون لأبحاث التوظيف، في إفادة لـ "وول ستريت جورنال"، أن مصنّعي السلع غير المعمرة واجهوا صعوبة متزايدة في منافسة الدول ذات تكاليف العمالة المنخفضة. وتفاقم هذا الوضع في التسعينيات، ويعزى ذلك جزئيا إلى خفض اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) للرسوم الجمركية على السلع المكسيكية.

كما شهدت صناعة الصلب فقدان وظائف بعد أن عززت دول نامية، مثل كوريا الجنوبية، صناعاتها من الصلب، مما أدى إلى غرق العالم في فائض الطاقة الإنتاجية.

رغم كل ذلك، لم تحدث الصدمة الكبرى للصناعات الأمريكية إلا مع انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وفتحها أبوابها أمام الاستثمار الأجنبي ووصولها إلى الأسواق العالمية، فكان زلزالاً تركت المصانع الأمريكية الكبرى أمام خيارين: إما الانتقال إلى خط الخسائر أو الانتقال إلى الصين أو حتى تقليص عمليات التصنيع في الولايات المتحدة عبر الطلب من المصانع الصينية إنتاج القطع المطلوبة المكلفة، وعنى ذلك مزيداً من التسريح في صفوف العمال الصناعيين.

الحلم الأمريكي مجدداً!

لقد ساهمت هجرة التصنيع من الولايات المتحدة إلى انهيارات في يوتوبيا "الحلم الأمريكي"، وهي فكرة لا يمكن تجاوزها لمن أراد فهم ما الذي يريده ترامب في النهاية، رغم أن أسلوبه يفاقم من حيث المبدأ تلاشي هذه اليوتوبيا التي ترافقت مع ازدهار أمريكا.