بلسعة غاز خاطفة، تمكنت روسيا من تغيير المشهد الاقتصادي في القارة العجوز، وأيضاً، قلب موازين القوى الاقتصادية بين الداخل والخارج، عندما قررت قطع الغاز عن ألمانيا من 11 إلى 21 يوليو الجاري، لإجراء أعمال صيانة في خط "نورد ستريم1 "، أكبر خط أنابيب لنقل الغاز الروسي عبر بحر البلطيق.
وبينما حذّرت مجموعة "غازبروم" الروسية العملاقة للغاز من أنه لا يمكنها ضمان سير عمل خط الأنابيب بشكل عادي، تخشى الدول الأوروبية من إمكانية أن تسعى موسكو إلى استخدام مبررات تقنية من أجل وقف شحنات الغاز بشكل دائم والضغط عليها.
وألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس الماضي باللوم على روسيا قائلاً: "إن موسكو تستخدم الطاقة سلاحا في الحرب".
ويحاول مسؤولون أوروبيون إقناع شعوبهم بالتعايش مع الواقع الجديد، رغم إصرارهم على تكبيل موسكو بحزم متتالية من العقوبات لإجبارها على وقف الحرب في أوكرانيا.
رفع الفائدة
ومن المقرر أن يرفع البنك المركزي الأوروبي، سعر الفائدة، ربع نقطة مئوية، خلال يوليو الجاري، وفق ما نقلته وكالة بلومبرج للأنباء عن رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد، خلال الاجتماع السنوي لمسؤولي البنك المركزي أواخر يونيو الماضي في البرتغال.
وبحسب لاجارد، فإن "صانعي السياسات في منطقة اليورو على استعداد لعمل ما هو أكثر من ذلك لمواجهة التضخم القياسي.
بيد أن ذلك لن يردع المستهلكين الأوروبيين الذين تترسخ لديهم سيكولوجيا التضخم والشراء بنهم، حيث تتملكهم قناعة شبه مطلقة أن هذا أفضل وقت للشراء، كون الأسعار عامة تتجه نحو الارتفاع على وقع استمرار الحرب الأوكرانية، ولكون سلاسل الإمداد والتوريد تعاني من اختلالات وإضطرابات بنيوية، وفق كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي فيليب لين، محذرا من أن تضخما قياسيا مرتفعا في منطقة اليورو يثير مخاطر بتغذية "سيكولوجية التضخم"، في إشارة إلى ظاهرة يعدل فيها المستهلكون والشركات عاداتهم الإستهلاكية مع توقعهم ارتفاع الأسعار وزيادتها بشكل متواصل.
خفض توقعات النمو
وتنتاب المفوضية الأوروبية، خيبة أمل، بسبب التشنجات الاقتصادية "المؤلمة" في منطقة اليورو، لذلك ستخفض توقعاتها للنمو الاقتصادي للعامين الجاري والمقبل، وسترفع توقعاتها للتضخم بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) عن نائب رئيس المفوضية الأوروبية فالديس دومبروفسكيس الإثنين الماضي.
تكلفة المعيشة
وتعد منطقة اليورو من أكثر المناطق تضررا حول العالم من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الإقتصادية السلبية المتمثلة في شح الموارد والسلع وارتفاع أسعارها مع تقطع سبل الإمداد والتوريد وتعطلها.
وتستمر الأسعار في الارتفاع في منطقة اليورور مع اختفاء أي بوادر تبشر بتراجعها، ما عمق من أزمة المعيشة وأرهق المستهلكين، وأرغم صانعي القرار، على البحث تدابير تساعد على تخفيف الضرر، وسط مخاوف من تبعات التضخم على الاقتصادات الأوروبية واستقرارها.
وشهد التضخم في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة ارتفاعا غير مسبوق بلغ إلى 8.1 بالمئة في مايو الماضي، مع استمرار زيادة الأسعار، متخطيا كافة التوقعات، ما يشير إلى أن الطاقة لم تعد وحدها السبب في زيادة التضخم، وفق مكتب الإحصاءات الأوروبي "يوروستات".
وبلغ معدل التضخم في منطقة اليورو في مايو الماضي، أعلى مستوى له منذ طرح عملة اليورو في 1999، في وقت واصل فيه ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة، ما ينذر بشبح ركود اقتصادي، يلوح في أفق أرجاء القارة المختلفة.
سقوط اليورو
وهوى سعر صرف اليورو ليتساوى الدولار (واحد مقابل واحد) في 12 يوليو الجاري، لأول مرة منذ نحو عشرين عاما.
وسيستمر اليورو في التراجع، وسيشعر العالم بأسره بارتدادات الهزة الاقتصادية فيما يمكن بأن تتسبب أزمة الطاقة الأوروبية بركود، في حال عدم إعادة تشغيل نورد ستريم1، وفق ستيفن إنيس المحلل لدى "إس بي آي لإدارة الأصول".
ويواجه اليورو ضغوطاً في الأسواق المالية منذ فترة طويلة لأسباب ناجمة عن تأثيرات حرب أوكرانيا التي أثرت على أوروبا على نحو خاص والمكافحة المتحفظة نسبياً للتضخم من جانب البنك المركزي الأوروبي، وفق وكالة (د ب ا) الألمانية.
وجاء ضعف اليورو بشكل غير موات في البيئة الحالية التي تشهد معدلات تضخم مرتفعة نسبياً، لأنه كلما انخفض سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة، أصبحت عملات أخرى مثل الدولار أقوى ومن ثم ارتفعت قيمة البضائع القادمة إلى منطقة اليورو وهو ما سيفاقم التضخم.
ومع انخفاض قيمة سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة، سيضطر المستهلكون في منطقة اليورو إلى زيادة نفقاتهم من أجل تغطية تكاليف المعيشة وينذر هذا الانخفاض بالدرجة الأولى بحدوث ارتفاعات أخرى في أسعار الطاقة والمواد الخام.
تحذير
ولم يستبعد المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرل، أن تواصل روسيا إيجاد مشاكل مختلفة هنا وهناك وأن تواصل إيجاد ذرائع لمزيد من الخفض في تسليمات الغاز إلى أوروبا، وربما تقطعها بشكل كامل، وفق ما نقلته رويترز عن بيرل مؤخرا.
وستقلب خطوة روسيا المتمثلة بخفض وقطع الغاز عن دول اليورو الموازين في أوروبا، وستؤثر على سير الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا ما حذر منه بيرل.
وتخشى وكالة الطاقة الدولية، أن تقطع روسيا إمدادات الغاز بشكل كامل عن أوروبا، في وقت تسعى موسكو لتعزيز نفوذها السياسي وسط أزمة أوكرانيا، ما يعني أن على أوروبا الاستعداد من الآن فصاعدا لخطوات روسية أخرى قد تقلب الطاولة رأسا على عقب، بعد تاريخ الواحد والعشرين من يوليو الجاري.
10 أيام عجاف
وحالياً، يعيش الأوروبيون عشرة أيام عجاف، تسيطر عليها مخاوف من فقدان الطاقة، و"تغول" التضخم في مجتمعاتهم، فيما تخشى الحكومات والأسواق والشركات الأوروبية، من عدم عودة الغاز إليها مطلقا بعد التاريخ المنتظر، بسبب الحرب الأوكرانية القاهرة.