اتسم الجدل حول من يتولى مهمة تقنين الذكاء الاصطناعي طوال الفترة الماضية باستناده إلى منظور الانتقال من أعلى هرم السلطة إلى أسفله. من ناحية يود عمالقة التكنولوجيا أن يقوم المسؤولون المنتخبون بوضع الحدود، فيما تواجه الإدارة الأمريكية صعوبة ملموسة في تنظيم قواعد الإعلانات، والقيمة الرأسمالية للمراقبة.

وعلى مستوى الولايات الفردية هناك مقترحات تشريعية لاستخدام الذكاء الاصطناعي، تتوافق في الأغلب مع تطبيقاته في المجالات الصناعية الكبيرة بهذه الولايات، كما تعمل السلطات الأوروبية والصينية على صياغة بعض الأفكار في هذا الصدد.

وليس هناك من لديه القدرة على الإحاطة الكاملة بقدرات وإمكانات هذه التكنولوجيا الجديدة، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة إيجاد حل مثالي وعملي لهذه المسألة، لكن إحدى المجموعات نجحت في تحقيق تقدم كبير في وضع بعض سبل الحماية الجديدة. إنها رابطة الكتاب الأمريكيين، التي تمثل كتاب هوليوود المضربين، الذين توصلوا مؤخراً إلى اتفاق للعودة إلى العمل، كان من بين بنوده زيادة الأجور والمستحقات المؤجلة وتوظيف حد أدنى من أفراد العمل، لكن من الممكن أن يكون أفضل ما حصل عليه هؤلاء الكتاب هو: صياغة قواعد جديدة حول ما يمكن، وما لا يمكن لصناعة الترفيه استخدامه من الذكاء الاصطناعي.

تنطبق هذه القواعد على أي مشروع ينضم إليه هؤلاء الكتاب، الذين يحق لهم تقرير ما إذا كانوا يريدون استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة أم لا. ويتعين على الاستوديوهات أيضاً مصارحة الكتاب بما إذا كانت أي من المواد المقدمة لهم تم إنتاجها بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهو ما لا يمكن استخدامه للانتقاص من الملكية الفكرية للكاتب.

إن هذا الاتفاق يعد عظيماً لسببين: أولاً، فهو يظهر أنه يمكن بالفعل تنظيم الذكاء الاصطناعي للتنظيم، فخبراء التكنولوجيا يحبون تصوير الأمر وكأنهم يتوسلون إلى واشنطن للتدخل حتى لا تفسد منتجاتهم، وخدماتهم الجديدة العالم، والحقيقة هي أنهم ينفقون المليارات في محاولة للتوصل إلى غطاء قانوني، يوفر لهم أكبر قدر من الحماية حال حدوث أي مشاكل، ويتيح لهم أفي الوقت نفسه بالمضي قدماً في عمليات التطوير والابتكار، وتبدو مخاوف أصحاب المصلحة أقل أهمية بكثير في نظر الرؤساء التنفيذيين شركات التكنولوجيا، من مواصلة المنافسة ومواكبة أقرانهم في وادي السيليكون والصين.

السبب الثاني لأهمية الاتفاق هو أن هذه القواعد الجديدة لا تأتي من أعلى هرم السلطة إلى أسفله، بل العكس، فالعاملون الذين يتعاملون بصورة يومية مع التكنولوجيا الجديدة لديهم قدرة أكبر على فهم كيفية السيطرة عليها بشكل مناسب، وتقول أماندا بالانتاين، مديرة معهد أيه إف إل- سي آي أو للتكنولوجيا، والتي ناقشت معها تطورات الموقف في مؤتمر للذكاء الاصطناعي الأسبوع الماضي بجنوب كاليفورنيا: «العاملون يعرفون أكثر، فهناك تاريخ طويل للنقابات في الاستفادة من خبرة العاملين في وضع قواعد أفضل للسلامة والخصوصية والصحة وحقوق الإنسان وغيرها»، وتشير بالانتاين إلى أن النقابات كان دورها محورياً في تبني تقنيات أخرى غيرت مجرى الصناعة، مثل الكهرباء، مما ساعد على خلق أنظمة صناعية جديدة لزيادة السلامة والإنتاجية في الوقت نفسه.

لقد نجح مشروع هيئة وادي تينيسي في ثلاثينيات القرن العشرين إلى حد كبير، بفضل إسهام الاتحاد الدولي لعمال الكهرباء، والذي تطور نشاطه بالتوازي مع التكنولوجيا الجديدة، وقدمت هذه النقابة سلسلة من المقترحات للحكومة حول أفضل السبل لتنظيم المشروع الضخم لتوفر الكهرباء لجزء كبير من المناطق الريفية في الجنوب، وكانت النقابات أيضاً عنصراً أساسياً في نجاح جهود التصنيع في الحرب العالمية الثانية، وكذلك في تطوير بعض معايير العمل في المصانع التي تلت ذلك. إن مقولة «العاملون لديهم الخبرة» لا تمثل مفاجأة لألمانيا أو اليابان، حيث تبنت هاتان الدولتان نموذج عمل أكثر حرصاً على مصالح العاملين، أدى إلى نجاحهما في انتزاع حصة سوقية من مصنعي السيارات الأمريكية إبان العقود الأخيرة.

وعادة ما يتم انتقاد كبار مصنعي السيارات الأمريكية في ديترويت لعدم تطبيقها في مرحلة مبكرة أساليب التصنيع المرنة على غرار النمط الآسيوي في وقت مبكر، مع مراعاة أن هذه الأنظمة تعتمد على التعاون المستمر بين العمال والإدارة، الأمر الذي يتطلب الثقة، وهي أمر غالباً ما تفتقر إليه الشركات الأمريكية، ويعد التفاوض الجماعي في الولايات المتحدة مثاراً للخلاف، وفي بعض النواحي، فإن الشركات الأمريكية تعتمد النظام الذي تستحقه، حيث اختارت الشركات مبكراً ببساطة التفاوض حول الأجور، مع مقاومة قوية لأساليب الإنتاج التي تنطوي على تقاسم السلطة، لكن العلاقات بين العمال ورؤساء العمل، الذين يتخذون القرارات بشأن التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي يجب ألا تكون كذلك.

في الواقع ثمة طرح قوي، مفاده أنه يجب على الإدارة الالتقاء بالعاملين والاستماع لآرائهم حول التقنيات الجديدة عند طرحها، لمعرفة الأمور التي من شأنها رفع الإنتاجية، أو تقويض الخصوصية، أو خلق فرص وتحديات جديدة.

وإذا ما سارت الأمور على النحو الأفضل يمكن أن يتطور هذا السلوك إلى «كايزن رقمي» أي فلسفة التحسين المستمر في المجالات الرقمية، حيث يتعاون العمال والإدارة على إحداث تغييرات تدريجية، مما يؤدي ببطء، ولكن بثبات إلى الإلمام المشترك بأبعاد الذكاء الاصطناعي، ويدرك معظم الناس أنه إذا لم يخدم الذكاء الاصطناعي الإنسان، ويعزز في النهاية أداء العمالة البشرية، فإننا سنواجه بعض السياسات شديدة الخطورة، حيث وجدت إحدى الدراسات الأكاديمية الحديثة أن 80 % من القوى العاملة في الولايات المتحدة قد تتغير طبيعة بعض جوانب أعمالهم، بفعل الذكاء الاصطناعي.

وهذا سبب آخر لاختيار نهج من الأسفل إلى الأعلى لإدارة التكنولوجيا الجديدة، إذ يستطيع العاملون بما لديهم من خبرات يومية في مقدمة مستخدمي تطبيقات الذكاء الاصطناعي المساعدة في تحديد أفضل أنواع التدريب على المهارات اللازمة لتوظيف الأدوات الجديدة، والخروج بمكاسب لكل الأطراف، كما أنه تزيد احتمالات انتشار وشيوع نموذج تقنين الذكاء الاصطناعي، الذي تقوده النقابات، وتدرس نقابة (SAG-AFTRA)، التي تقود إضراب الممثلين المضربين بعناية اتفاق الذكاء الاصطناعي، الذي أبرمه الكتّاب، والحال نفسها مع التنظيمات العمالية الأخرى، ما يمكن أن يفضي إلى اتساع نطاق الحديث حول دور النقابات مشرفين محتملين على البيانات، لحماية مصالح العمال والمواطنين. وفي كلتا الحالتين يمكن للعاملين أن يصبحوا عامل اتزان مفيداً أمام كل من شركات التكنولوجيا الكبرى والدولة.