كان من المُفترض أن تهدئ زيادات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة، التي دامت 18 شهراً، من زخم أكبر اقتصاد في العالم، إلا أن المستهلكين كان لهم رأي آخر. فقد أظهرت بيانات فيدرالية، الخميس الماضي، نمو الاقتصاد الأمريكي بمعدل سنوي بلغ 4.9% في الربع الثالث من العام الجاري، وهي وتيرة سريعة للغاية، شكّلت تحدياً للتوقعات القاتمة للاقتصاديين، وليست المرة الأولى.

ووصفت كاثي بوستيانشيتش، كبيرة الخبراء الاقتصاديين لدى «نيشن وايد»، الأمر بأنه «بمثابة تدريب على التواضع»، في إشارة إلى السجل السيئ للتوقعات منذ الجائحة.

وما جعل بيانات الناتج المحلي الإجمالي الأكثر قوة منذ 2021، مفاجئة للغاية، هو ما سبقها من قرارات، لقد كانت أكثر القرارات تشدداً من جانب الاحتياطي الفيدرالي تجاه السياسة النقدية منذ عقود. لقد رفع البنك المركزي أسعار الفائدة 11 مرة متعاقبة منذ مارس من العام الماضي، لتبلغ أعلى مستوياتها منذ 22 عاماً، متراوحة بين 5.25 و5.5%، في محاولة لتهدئة الاقتصاد وخفض التضخم. وقد تراجع التضخم بالفعل، لكن الاقتصاد ظل بعيداً تمام البُعد عن أن يكون هادئاً أو مكبوحاً هذا الصيف.

ومع ذلك، ورغم أنهم لم يكونوا على قدر كبير من الدقة في الأشهر الأخيرة، حذر الخبراء الاقتصاديون من أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لن يواصل تحدي الجاذبية لمدة أطول.

تنبع المرونة المذهلة للاقتصاد الأمريكي حتى الوقت الراهن من مصدر رئيس واحد، هو الإنفاق الاستهلاكي، الذي كان أكبر مساهم، وبفرق كبير، في الطفرة الاقتصادية خلال الربع الثالث، وشكّل أكثر من نصف الزيادة السنوية. وبدعم من سوق عمل أكثر صحة، تمتع الأمريكيون بالثقة لمواصلة الشراء بفضل استمرار الطلب على العمالة.

وقالت بوستيانشيتش: «كان نمو الوظائف مذهلاً حقاً، وهو ما أعطى دفعة قوية للإنفاق الاستهلاكي». فضلاً عن ذلك، فإن ما «حفّز» هذه الديناميكية القوية كان الشعور السائد بين المستهلكين بأنهم يتمتعون بسيولة كبيرة.

وأضافت أن «الميزانيات العمومية تبدو في وضع جيد، وتمتعت الأسهم بأداء جيد للغاية بصفة عامة، مع الارتفاع الشديد بأسعار المنازل، وحتى إن لم تتوفر لديك الأصول، فهناك حصيلة من المدخرات المرتبطة بفترة بالجائحة».

لكنها، مثلها مثل خبراء اقتصاديين وصانعي سياسة آخرين، تتوقع خفوت هذا الزخم، خاصة مع امتداد تأثير الزيادات السابقة للفائدة من جانب الفيدرالي، وتعرض الشركات والأسر لوطأة تصاعد تكاليف الاقتراض، بعدما تضاعفت عائدات السندات الحكومية، بالغة أعلى مستوياتها.

وتتبدى العلامات واضحة على انحسار قوة المستهلكين.

وتشير تقديرات خبراء الاقتصاد إلى استنفاد قدر كبير من المدخرات الإضافية المُتراكمة منذ الجائحة، والتي تزيد على تريليوني دولار. علاوة على ذلك، تعتقد نانسي فاندن هوتن، كبيرة خبراء الاقتصاد لدى «أوكسفورد إكونوميكس»، بأن ما يتبقى يُعد متركزاً بين الأسر الأكثر ثراء، منوّهة إلى أن الشركات صارت أكثر حذراً.

ويعتقد غريغوري داكو، كبير الاقتصاديين لدى «إي واي بارثينون»، بأن المحرك الاقتصادي الأمريكي الذي شهد أداءً قوياً للغاية في الربع الثالث على وشك أن يتلاشى.

وأوضح قائلاً: «إن كافة المحركات الإيجابية للإنفاق الاستهلاكي كانت تتسارع على نحو شديد القوة على مدى الصيف، لكننا رأينا تراجعاً كبيراً لبعض هذه المحركات، ونتوقع تراجع البعض الآخر منها خلال الأشهر المقبلة».

وأضاف داكو: «إذا بدأت الشركات في الشعور بالضغوط الناجمة عن ازدياد تكاليف خدمة الدين وانخفاض بمعدل الاستخدام على صعيد القوى العاملة، وإذا بدأت تشعر بالحاجة لخفض التكاليف لأنها لن تكون قادرة بالضرورة على تحقيق الإيرادات التي تستهدفها، فسوف يبدأ هذا في أن يسفر عن تأثير كرة الثلج».

ذكر داكو أن علامات على «ثقل التكلفة» كانت واضحة في البيانات الأخيرة للناتج المحلي الإجمالي، إذ انخفضت الاستثمارات الثابتة غير المقيمة، التي تقيس إنفاق الشركات على الآلات والمعدات أخرى، بنسبة 0.1% على أساس ربع سنوي. كون هذا التراجع الثالث لهذه الفئة في الأربعة أرباع الأخيرة، ما يُعد مؤشراً على «تأثير الفوائد الأعلى على نشاط الشركات»، وفق الاقتصاديين لدى «مورغان ستانلي».

وتشير توقعات جمعتها «بلومبرغ»، إلى ترجيح أغلب خبراء الاقتصاد في الوقت الراهن انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة إلى 0.8 في الربع التالي، ما يقل بأكثر من 4 نقاط مئوية عن القراءة المُسجلة في الربع الثالث، قبل أن يهوي إلى القاع عند 0.2% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2024. ويرى إيان شيبردسون، كبير خبراء الاقتصاد لدى «بانثيون إكونوميكس»، أن النمو قد يهوي إلى الصفر في الربع المقبل، لكنه اعترف بوجود هامش كبير للخطأ. ومع ذلك، فإن مسألة سقوط اقتصاد الولايات المتحدة في هوة الركود من عدمها، تظل محل خلاف كبير.

وصرحت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، الخميس، بأن البيانات لا تشير إلى «أية مؤشرات على الركود»، رغم إقرارها بأن وتيرة نمو الربع المنصرم لن تتكرر على الأرجح. وأكد جيروم باول، رئيس الفيدرالي، بدوره على أنه لا يزال هناك مجال لأن يشهد الاقتصاد هبوطاً سلساً. ويرى داكو أن احتمالات ركود الاقتصاد بالعام المقبل متساوية، لكنه كان حذراً بشأن التوقعات. قال داكو: «لقد تعلمنا أن نكون متواضعين للغاية في قدرتنا على التنبؤ».