الأسهم الأمريكية... إنها سوق غير قابلة للإرضاء

«لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟». يُطلق الفلاسفة على هذا سؤالاً وجودياً. عندما كنت أدرس المادة في جامعة كولومبيا، منذ بضع سنوات، أراد سيدني مورغنبيسر، الأستاذ القدير، إعطاءنا إجابته عن هذا السؤال الوجودي، وكانت: «حتى لو لم يكن هناك شيء، فستواصل شكواك!».

قد يستخدم المرء تعليقاً مماثلاً حول سوق الأسهم الأمريكية، فالاقتصاد يشهد طفرة، وأرباح الشركات قوية، لكن السوق مع ذلك منخفضة بنسبة 10 % عن القمم، التي بلغتها في الصيف، كما أن زخمها يهبط باطراد. نعم، لم تكن العلاقة بين الاقتصاد والأسواق مباشرة قط، وثمة عوامل كثيرة تؤثر على أسعار الأسهم، وليس النمو وحده، ومع ذلك فالتناقض صارخ في الوقت الراهن، ويجدر بنا البحث في أسباب ذلك.

وتلعب التقييمات المرتفعة دوراً هنا، ولكن ليس بطريقة مبسطة. وعند النظر إلى رسم بياني لمكرر الربحية الآجل لمؤشر «إس آند بي 500» على مدى العقدين الماضيين تبدو التقييمات الآن وكأنها عند الحد الأعلى من المتوسط الأخير، لكنها ليست شديدة الارتفاع قياساً بالنمو الاقتصادي، وإن كان يجدر الإشارة إلى أن تقييمات الأسهم، التي قادت السوق، وهي كبرى شركات التكنولوجيا، متطلبة للغاية بالوقت الحالي.

تبدو التقييمات وكأنها مشكلة عند وضعها في سياق، وهو ما تفعله مقاييس روبرت شيلر، الخبير الاقتصادي في جامعة «ييل»، وإذا فحصنا عائد الأرباح المعدل دورياً لمؤشر «إس آند بي 500» أكثر من عائد السندات لأجل 10 سنوات، ما يُطلق عليه شيلر عائد مكرر الربحية الزائد المعدل دورياً، فسنجد أننا لسنا عند قمم التقييم الرهيبة، التي بلغناها إبان فقاعة «دوت كوم»، لكننا حتماً ندفع مبالغ طائلة مقابل أرباح شركاتنا مقارنة بالعائد النقدي الخالي من المخاطر المتاح في سوق سندات الخزانة.

تسهم خلفية التقييم في تفسير السبب وراء العقاب القاسي غير المعتاد، الذي يقع على الشركات، التي تخالف توقعات الأرباح، وهو ما نشرت عنه «فايننشال تايمز» الأسبوع الماضي، ولا تتماشى الأسعار الحالية مع الأداء، ويبدو وضع التقييم أكثر قسوة بالنسبة للأسهم عند مقارنتها بائتمان الشركات.

تظل الفروق ضيقة لكن العائدات المُطلقة على السندات مرتفعة العائد، متماشية مع نطاق يتراوح بين المستوى الأعلى للنسب من خانة واحدة، والأدنى من خانتين، بينما يظل التخلف عن السداد منخفضاً ومع وجودة الشركات متحسنة، وتتوفر لدى المستثمرين متعددي الأصول مجموعة من الخيارات.

إن التقييمات باعتبارها تفسيراً أساسياً لحركة أسواق الأسهم ليست أمراً بديهياً محسوماً، لكنها (التقييمات) تشكل خلفية، تعمل في ظلها عوامل تفسيرية أخرى أكثر قوة، وثمة عامل كبير، ولكن غير متبلور، مرتبط بالتقييمات والفوائد، وهو عدم اليقين بشأن التغير، الذي يطرأ على الأنظمة الاقتصادية والمالية، وتبدو الفترة بين الأزمة المالية العالمية والجائحة فترة مميزة من النمو المعتدل والتضخم المنخفض ومعدلات الفائدة القريبة من الصفر.

إذا كانت هذه الحقبة انتهت وليست في حالة توقف فقط، فسيكون من الصعب حينئذ الحديث عن ماهية التقييمات المناسبة للأصول بالحقبة التالية، وقد تكون المقارنات التاريخية غير مفيدة كثيراً في هذا الصدد.

هناك احتمالية أخرى بتلميح السوق إلى أن ازدهار الاقتصاد الأمريكي قد لا يكون مُستداماً، وبالتأكيد فإن رفع الفيدرالي للفائدة بأكثر من 5 % في وقت قياسي، واستجابة الاقتصاد بتسارع مُستدام سيكون حالة شاذة تاريخياً.

إن التضخم الذي يظل فوق المستهدف والاقتصاد شديد التسارع يفسحان طريقاً أمام ظهور شبح أخطاء الفيدرالي السابقة، وينطوي هذا على دفع الفيدرالي فائدته إلى مستويات أعلى في اللحظة عينها، التي يبدأ فيها تأثير الجولة الأولى من الزيادات بالظهور.

واحد من الأمور التي تبدو هشة بشكل خاص هو معدل الادخار الشخصي، الذي انخفض دون مستويات ما قبل الجائحة، ودون الخوص في نقاش غامض بشأن «المدخرات الفائضة» فإن القلق يكمن في أن المدخرات دون المستويات العادية يسلّط الضوء على مستهلك ينفق على نحو مكثف لا يمكن أن يستمر، واشتمل تقرير الناتج المحلي الإجمالي، الذي صدر الأسبوع الماضي على نذير مماثل بشأن تباطؤ مستقبلي، ومنذ بداية العام وحتى اليوم تسارع نمو الإنفاق الاستهلاكي الاسمي بنحو نقطة مئوية واحدة مقارنة بالدخل الشخصي الاسمي، ما يشير إلى إنفاق الأشخاص من مدخراتهم.

وفي هذا الصدد قال دون ريسميلر، الخبير الاقتصادي لدى «ستراتيجاس»: «أي صدوع كبيرة في سوق العمل من شأنها التأثير سريعاً على المستهلك، الذي تقع ثقته بالفعل تحت وطأة ضغوط هبوطية».

ويُحتمل أن الأسهم تتفاعل في الوقت الراهن مع زيادة التقلبات في الفوائد، وأشار ديفيد كوستين، كبير الخبراء الاستراتيجيين في الأسهم الأمريكية لدى «غولدمان ساكس» إلى ارتفاع العائد على السندات لأجل 10 سنوات بنحو انحرافين معياريين، أو بقرابة 50 نقطة أساس، في أكتوبر، وهي تحركات تتصادف تاريخياً مع انخفاض «إس آند بي 500» بنسبة   4 %، ومن شأن أي ارتفاع للتضخم، وهو أمر ليس بالمستحيل في اقتصاد يتمتع بنمو قوي، أن يعيد زيادات الفيدرالي للفائدة مرة أخرى إلى الطاولة، مما سيدفع العائدات للتحليق إلى مستويات أعلى، ومن شأن وقوع سيناريو نمو وتضخم مبهم أن يسفر عن اضطرابات بسوق السندات، وبالتالي ازدياد التقلبات في العوائد.

وأخيراً سيكون من الخطأ استبعاد إمكانية وقوع خطب ما، بعد زيادات أسعار الفائدة، التي شهدناها، وقد شهدنا النذر اليسير من هذا في مارس عندما انهار مصرفا «سيليكون فالي» و«فيرست ريبابليك» نتيجة سوء إدارة مخاطر الفائدة، وفي حين تبدو بقية القطاع المصرفي مستقراً للغاية أو غير مُحوّط، ومع تمديد الشركات لآجال استحقاق ديونها عندما كانت الفائدة قريبة من الصفر، لا يمكن للمرء التنبؤ بموطن أو موعد ظهور نقاط الضعف المؤسسية التالية، وبالطبع تزداد هذه المخاطر مع ارتفاع عائدات السندات طويلة الأجل. لقد أثبت الاقتصاد مرونته، لكن هل سينطبق الأمر ذاته على كل صندوق تحوط كبير أو أداة ائتمانية خاصة أو هيكلية تمويل عقاري؟!