بريطانيا.. كثير من المفكرين بحاجة لمزيد من الفاعلين

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتمتع بريطانيا بقائمة لامعة من المخترعين العظماء، إذ ابتكر إسحق نيوتن أول تليسكوب عاكس، وتفتق ذهن مايكل فاراداي عن المحرك الكهربي، وطوّر آلان تورينغ، الذي فك شفرة «إنيغما»، أول الحواسيب. وجاء كل هؤلاء الرواد من البيئة الأكاديمية، شأنهم شأن باحثين وعلماء وأساتذة كثر. لكن الأهم من ذلك هو تطبيقهم للنظريات، وتعليمهم آخرين كيفية فعل ذلك. وهذه القدرة على التفكير والفعل، سواء بشكل فردي أو جماعي، هي التي لا تزال تشكل محرك عجلة النمو والابتكار حول العالم.

ويرى المؤرخان الاقتصاديان، رالف ميسنزال ودويل موكير، أن الثورة الصناعية في بريطانيا قامت بدعم من ثلاث مجموعات: المخترعون، والمعدّلون الذين بإمكانهم تكييف وتحسين وتقويم التكنولوجيا الموجودة، وأخيراً المنفذون القادرون على البناء والتركيب والتشغيل وصيانة المعدات الجديدة والمعقدة.

لقد تمتع كل من نيوتن وفاراداي بالمهارات التي مكنتهما من تطوير أفكار وتطبيقها، لكن بريطانيا تفتقر في عصرنا الحاضر للفاعلين. وتسلّط مؤشرات احتياجات المهارات لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الضوء على افتقار المملكة المتحدة للمهارات في قطاعات تشمل التشييد والهندسة والطب. وفي المقابل وكما يقول دان وانغ، الخبير التكنولوجي والباحث الزائر لدى كلية ييل للقانون: «تتمتع المملكة بدلاً من ذلك بالتخصص في صناعات ذكية، مثل البحوث والتمويل والصحافة والتلفزيون».

ورغم أن الفارق بين المفكرين والفاعلين ضبابي، إلا أنه واضح في بريطانيا. ولنا في الجامعات مثال بارز على ذلك، حيث تتربع البحوث التي تنتجها المملكة المتحدة على رأس التصنيفات العالمية باعتبارها وثائق يمكن الاستشهاد بها، لكن مؤسساتها تتخلف عن ركب التنمية. وتحل بريطانيا في المرتبة 34 من حيث مهارات البحث في الأعمال، ما يعني أن مهاراتها العلمية متركزة على نحو أكبر في البيئة الأكاديمية.

وقال نيل لي، أستاذ الجغرافيا الاقتصادية لدى كلية لندن للاقتصاد: «تركز جامعاتنا على العلوم الرائدة عالمياً، لكنها لا تبذل جهداً كبيراً في تكييف التكنولوجيا الموجودة بالفعل مع الاقتصادات المحلية»، وتابع: «لذا ينتهي بنا الحال إلى الكثير من البحوث العلمية في مجالات لا تتضح كيفية تطبيقها في العالم الحقيقي، مع قدر من التطبيق أقل مما نحتاج».

وينطبق الأمر ذاته على الأعمال. ويأتي النظام البيئي للشركات الناشئة في المملكة المتحدة في المرتبة الثانية عالمياً، لكن الشركات الناشئة ذات الأفكار الذكية تواجه صعوبة في التوسع. وبطبيعة الحال، تتخلف الشركات الصغيرة والمتوسطة البريطانية عن ركب نظيراتها حول العالم في تبني التكنولوجيا ومهارات الإدارة.

وإذا انتقلنا إلى صناعة السياسة، فسنجد أن بريطانيا تحتضن جامعات ذات مستوى مرموق عالمياً، وهي الرابعة على مستوى العالم من حيث عدد المراكز البحثية، غير أن العالم السياسي يعاني لتحويل الأفكار إلى واقع. وبناء الأشياء وإدارة التغيير ليسا من مواطن قوة القطاع العام. وفي ظل نقص يبلغ 4 ملايين منزل، هناك فشل بالمملكة المتحدة في بناء إما منازل أو بنية تحتية بتكلفة منخفضة أو في الوقت المناسب. وليس أدل على ذلك من الجلبة الكبيرة الكثيرة بشأن مشروع «هاي سبيد 2» للسكك الحديدية.

ويُعد مزيج المهارات في بريطانيا ناتجاً ثانوياً لتجربتها الخاصة في التحول الصناعي، فتقليص النشاط الصناعي في بريطانيا أكثر سرعة مقارنة بدول متقدمة أخرى، لتنقل البلاد قدراً كبيراً من ثقلها الاقتصادي إلى قطاعي الخدمات والمعرفة. وتنطوي الوظائف في قطاع الخدمات على «الفعل»، وتُعد «الصناعات الذكية»، التي تشمل البحث والخدمات المهنية والوظائف الإبداعية، أصولاً معنوية يصعب قياسها. كما أن قطاع الهندسة المتقدمة الآخذ في النمو ببريطانيا يعد مثالاً جيداً لربط التفكير بالفعل، والعمل مع مصنعين لتحسين العمليات.

علاوة على ذلك، فإن تخصص بريطانيا في تصدير خدمات ذات قيمة مضافة أعلى يعني سهولة إمكانية استيرادها سلعاً مادية، ويمكن سد فجوة المهارات المطلوبة عن طريق الهجرة، إذا ما أتاحت السياسة ذلك. لكن القدرة على الفعل، سواء بتعديل أو تنفيذ الأفكار، بحاجة لأن تكون أكثر ترسخاً في الاقتصاد، لثلاثة أسباب: الأول، أنه كما تُظهر المؤسسات العلمية والعملية والقطاع العام في بريطانيا، فإن البلاد بحاجة إلى تبني البحث والتكنولوجيا على نحو أفضل، وإلا فستكون المملكة المتحدة مجرد مصنع للأفكار التي تُطبق وتنفذ في أماكن أخرى.

السبب الثاني، هو الحاجة الدائمة إلى بناء السكك الحديدية والبنية التحتية، وتحديثها وإعادة تهيئتها، فمن شأن وسائل النقل والاتصالات الأفضل أن تحقق مكاسب من العمالة المعتمدة على المعرفة، بتمكينها من الانتشار في ربوع البلاد. وكما يشير وانغ فإن: «التكنولوجيا تتخطى مجرد الأدوات، كالقدور والمقالي، وتتجاوز أيضاً التعليمات، مثل الوصفات». وتحدث وانغ في هذا الصدد عن الخبرة الصناعية و«كل ما يأتي مع التعلم بالفعل والممارسة».

السبب الثالث، يتعلق بالشكوك تجاه مدى قدرة قطاع الخدمات البريطاني الطاغي على دفع قاطرة زيادة الإنتاجية، فهناك الكثير من الأنشطة ذات المحصلة الصفرية، وتشمل الامتثال والتداول والنزاعات القضائية، حيث تلغي الجهود بعضها بعضاً.

وخاتمة المطاف من كل هذا هو حاجة بريطانيا إلى إدخال المزيد من المعرفة التطبيقية إلى التعليم، وزيادة استثمارها في التدريب المهني والإداري، بجانب دعم نمو التجمعات، حيث يمكن للإدارة والبحث أن يتصلا ببعضهما بعضاً. وقال لي: «نحتاج إلى بناء هيبة ووجاهة لمهارات ومؤسسات البحث التطبيقي»، مشيراً إلى أن أفضل المؤسسات العالمية، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن والمعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زيوريخ، تمزج بين كليهما. ولذا، تحتاج بريطانيا إلى زيادة إنتاجياتها لمزيج المفكرين والأيدي العاملة.

Email