انهيار قطاع البناء في ألمانيا يهدد بأضرار اقتصادية واسعة النطاق

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعود وولفانج شوبرت راب، مدير إدارة شركة راب للإنشاءات بذاكرته للوراء، مسترجعاً فترات ازدهار جيدة للغاية؛ حيث لم تكن شركته قادرة آنذاك على مجاراة الطلب على بناء المنازل بالسرعة الكافية.

ويقول: «في عام 2021، وقبل حتى صبّ أول متر مكعب من الخرسانة، كنا قد تلقينا عروضاً لبناء أكثر من نصف المجمع السكني». وبعد مرور عامين، بات سوق مساكن العائلة الواحدة، حسب وصف راب، في حالة من «الانهيار التام».

إن شركات البناء في مختلف أنحاء ألمانيا تشهد تحولاً حاداً في مصائرها، لدرجة أن الركود في قطاع تشييد المباني السكنية يُهدد بإلحاق أضرار واسعة النطاق في أكبر اقتصاد في أوروبا. وأعلن الكثيرون عن تعسرهم المالي، مما يؤثر سلباً على هدف المستشار أولاف شولتز ببناء 400,000 منزل جديد سنوياً لمواجهة أزمة تكلفة السكن في العديد من أكبر المدن في البلاد.

وهذا الأسبوع، أعلنت الحكومة الفيدرالية عن تعاون مع المجالس التشريعية في الولايات للتدخل عبر اتخاذ مجموعة من التدابير التي تهدف إلى تسريع عملية بناء المنازل عن طريق تقليص الإجراءات البيروقراطية.

ويرى ممثلو الصناعة أن الاستجابة خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنهم قلقون من أن التدابير التي قد لا تكون قوية بما يكفي، وأن بدء العمل بها سيكون بطيئاً للغاية. وقال تيم أوليفر مولر، رئيس اتحاد الإنشاءات الألماني: «استناداً إلى تجاربنا السابقة، لا نعتقد أن العمل بهذه التدابير سيتم سريعاً، فالهياكل الفيدرالية مُعقدة جداً».

وبعد ازدهار دام نحو عقد بفضل الطلب القوي والائتمان الرخيص وتكاليف المواد الخام المنخفضة، تواجه شركات البناء الألمانية حالياً ما يصفه جيرون فراونث، مدير إدارة شركة فراونراث جروب، بأنه «عاصفة شديدة».

وقد باتت المواد الخام الآن أكثر تكلفة بنسبة 40 في المئة عما كانت عليه قبل جائحة كورونا، وهذه هي أعلى نسبة زيادة في أوروبا كلها. ويجب على القطاع كثيف الائتمان التعامل مع 10 زيادات متتالية في أسعار فائدة البنك المركزي الأوروبي.

وفي الوقت الذي لا تزال تعاني فيه الدولة من نقص المنازل المناسبة لا سيّما في المدن الكُبرى، فإن ارتفاع تكلفة الاقتراض تجعل الكثير من المشترين المحتملين غير قادرين على تحمل تكلفتها. وأدّى هذا إلى فقدان مدمر للثقة، كانت نتيجته وضع سوق العقارات السكنية في ألمانيا بين الأسوأ أداءً في أوروبا.

وانخفضت أسعار المنازل بنسبة 10 في المئة على أساس سنوي في الربع الثاني، بينما تراجع عدد تراخيص البناء الصادرة بشكل أسرع مما هو عليه في المنطقة ككل. وفي أكتوبر، أبلغت نسبة 22.2 % من الشركات عن إلغاء مشاريعها، وهي النسبة الأكبر منذ بدء معهد الأبحاث الاقتصادية في جامعة ميونخ (IFO) رصد النسب في عام 1991.

وقال فلاوس فولرابي رئيس الدراسات الاستقصائية في معهد الأبحاث الاقتصادية في جامعة ميونخ: «إن الأمر يزداد سوءاً طوال الوقت. لا تزال الأعمال الجديدة مُنخفضة جداً في قطاع الإنشاءات السكنية، ويتضاءل حجم الطلبات المتراكمة لدى الشركات».

وارتفع ناتج قطاع البناء بنسبة أكثر من 16 في المئة بين الربع الأول من عام 2015، وبداية عام 2022. ووفقاً لمكتب الإحصاء الأوروبي «يوروستات»، فقد زاد الطلب على خلفية انخفاض أسعار الفائدة ومعايير الإقراض المتساهلة نسبياً.

كما ارتفعت أسعار المنازل بنسبة تُقدر بـ 66 في المئة. وتُغذي حالياً مشاكل القطاع، الذي شكل أكثر من 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2021، التوقعات التي أدّت لتراجع ألمانيا إلى قاع قائمة تصنيفات صندوق النقد الدولي للاقتصادات الرائدة.

وقالت سوزانا ستريتر كبيرة مُحللي الاستثمار في شركة هارجريفز لانسداون لإدارة الأصول: «نظراً لأن القطاع العقاري هو مُحرك النمو في ألمانيا، فإن (مشاكل القطاع) لا تُبشر بالخير». كما تشعر الشركات التي ترتبط ثرواتها بالبناء السكني بضغوط كبيرة.

في السياق ذاته، تقول سابين بروكشنايدر، مديرة إدارة مجموعة باومان التي تعمل في بناء الحمامات والمطابخ الألمانية منذ أكثر من قرن: «نادراً ما كانت الأوضاع أصعب مما هي عليه الآن». وتتابع: «مع انخفاض المبيعات وزيادة التكاليف، فإن الشركات الصغيرة ستواجه مصاعب خطيرة»، مُضيفة أنّ نسبة الطلبيات قد انخفضت بمقدار 15 في المئة عن العام الماضي.

ومع زيادة التكاليف وتراجع الطلب فمن المتوقع أن يُجبرها الوضع على تقليص عدد موظفيها البالغ 1200 عامل، ووضع الآخرين تحت إطار نظام إجازة مؤقتة. وقالت بروكشنايدر: «مع الأسف سنُضطر إلى التخلي عن العمال المؤقتين لدينا، لأننا نتوقع وضعاً أسوأ العام المُقبل».

ويعتقد القائمون على قطاع صناعة البناء أنه ينبغي على الحكومة التدخل لتصحيح ما تعتبره شركات بناء المنازل تدهوراً للسوق. ويقولون إنه، على عكس فترات الركود السابقة في التسعينات أو مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا يزال سكان المُدن الكُبرى مثل برلين وميونخ وهامبورغ وكولونيا وفرانكفورت يواجهون نقصاً في المنازل ذات الأسعار المعقولة.

وقال يورج هيجيسفايلر، الرئيس التنفيذي لشركة بي كي إل بوكران لوجيستيك التي تبيع وتؤجر الرافعات لقطاع البناء: «الأوضاع الحالية من تكاليف البناء المُرتفعة والزيادة في أسعار الفائدة، تُخيف وتبعد المستثمرين وشركات البناء».

وفي سبتمبر، اتفق القطاع مع الحكومة الفيدرالية على خطة عمل تتضمن 14 بنداً، تضمنت مزيجاً من الامتيازات الضريبية، وبرامج الدعم الجاذبة، وخفض معايير توفير الطاقة، وتبسيط إجراءات التخطيط والموافقة. وصرحت وزيرة البناء كلارا جيويتز بأن مجموعة التدابير التي كُشف عنها منذ أيام ستُسرّع من إنعاش القطاع عن طريق تقليل العراقيل البيروقراطية والقانونية أمام شركات البناء.

وأضافت: «نحتاج المزيد من السرعة في التخطيط والموافقة على البناء كي تُبنى المساكن ذات الأسعار المعقولة بسرعة أكبر». وتابعت قائلة: «إن الاتفاق الذي أبرمته الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات سيضمن التسريع اللازم».

من جهته، يقول فيليكس باكليبا، المدير الإداري للاتحاد المركزي لصناعة البناء الألمانية (ZDB)، وهي مؤسسة تضمُّ 35 ألف شركة بناء، إن مجموعة التدابير تُقدم «بصيصاً من الأمل» ولكننا بحاجة إلى المزيد.

ودعا باكليبا الحكومة للمصادقة على المزيد من التدابير المُتفق عليها في سبتمبر، مضيفاً: علينا أولاً الحصول على طلبات جديدة حتى نكون قادرين على التحول إلى طور التعجيل. لكن هذه الطلبات أصبحت في تناقص مُستمر.

وقال شوبرت راب، وهو أيضاً رئيس الاتحاد المركزي لصناعة البناء الألمانية، إنّ الشركات لا تزال تفتقر إلى اليقين. وأضاف: «صناعتنا ليست حلبة سباق لكلاب الصيد، فقد تستغرق العملية بين عامين إلى ثلاثة أعوام حتى ينتقل العقار من مرحلة التخطيط إلى أن يُصبح جاهزاً للإشغال» واختتم: «يحتاج الناس الذين يُريدون البناء للاطمئنان، ومن دونه لن يقدم أحد على الاستثمار».

Email