في 2019، أصدر البنك الدولي تقريراً كان له وقع عميق في صفوف النخبة السياسية في إندونيسيا، إذ شدد على أن البلاد أخفقت في اقتناص فرصة التغيرات الهائلة في سلاسل توريد التصنيع العالمية، الناجمة عن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
وسلّط البنك الدولي آنذاك الضوء على أنه من بين أكثر من 30 شركة صينية أعلنت خلال الفترة بين يونيو وأغسطس ذلك العام التوسع في الخارج، لم تخطط أي منها للقيام بذلك في إندونيسيا. كما أن نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الناتج المحلي الإجمالي تضاءلت في الفترة بين 2012 و2019، مقارنة بازديادها في بلدان أخرى بالمنطقة، مثل فيتنام وماليزيا والفلبين وتايلاند. الأسوأ من ذلك هو أن غالبية الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إندونيسيا اتجهت إلى القطاعات غير التصنيعية.
وعلى إثر ذلك، سارع الرئيس، جوكو ويدودو، إلى العمل، حيث أصدر «قانون العمل الشامل»، الذي ضمّ في طياته تغييرات ضخمة في أكثر من 70 قانوناً للعمل والضرائب، بجانب قوانين أخرى؛ بهدف تقليل الروتين وجعل البلاد أكثر جاذبية. لكن القانون واجهته ردود فعل سلبية، لأنه يقلل من حقوق العمالة، في حين رحبت به الشركات لخفضه معدلات الضرائب على الشركات وتيسيره لقوانين العمل، فضلاً عن تبسيطه لقواعد الأعمال.
لقد جاء القانون الشامل ليبرز طموح إندونيسيا إلى أن تصبح ركيزة أساسية في سلسلة التوريد الدولية، فالبلاد تتمتع بسوق محلية ضخمة وتضم رابع أكبر تعداد سكاني على مستوى العالم، وهي خامس أكبر اقتصاد في القارة الآسيوية، ولديها فائض من الموارد الطبيعية، لكنها لطالما أبخست نفسها حقها.
وفي عهد ويدودو، الذي وصل للحكم في عام 2014، عبر كثيرٌ من المستثمرين الأجانب عن آمالهم بإجرائه إصلاحات هيكلية ضرورية لمعالجة الإجراءات الروتينية المبهمة، والتخلص من مصالح الأعمال الفاسدة التي أعاقت بدورها تقدم البلاد في كثير من الأحيان. وأدّت «التكلفة الخفية للدخول» طويلاً إلى صعوبة إقناع الكثير من المستثمرين العالميين بالمجيء لإندونيسيا، بحسب إيفان لاكسمانا، الزميل لدى المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في سنغافورة.
وثمّة مشكلات هيكلية أوسع نطاقاً، مثل: انقطاعات التيار الكهربائي، وتعثر قطاع النقل، وشح إمدادات المياه، وجميعها مشكلات شائعة في كافة أنحاء الأرخبيل الإندونيسي، وهي تبعد الكثير من المجموعات متعددة الجنسية التي تحتاج للثقة والتثبت من الاستقرار لتشغيل المصانع. كذلك، لا يزال الكثير من الصناعات في حاجة ماسة للابتكار والإنتاج الأكثر كفاءة.
وحاول ويدودو، إلى جانب ذلك، معالجة عقبة أخرى، تتمثل في نقص المواهب. وأقر نديم مكارم، رائد الأعمال المتخصص في التكنولوجيا الذي عُيّن وزيراً للتعليم في 2019، بحاجة النظام التعليمي الإندونيسي للإصلاح. وعوجاء تعيين مكارم في منصبه لإصلاح النظام المدرسي، إذ لطالما تخلفت إندونيسيا عن جيرانها في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة والحساب.
وقال مكارم إن إندونيسيا تحتاج «للبدء من الطرف السفلي لسلسلة التوريد والاتجاه لأعلى ببطء، قبل التحول إلى التصنيع التكنولوجي المتطور. إن لن تكن لديك سابقة في هذه الصناعات هنا، فكيف يمكنك إذاً اجتذابها؟».
ولا تزال الشركات الأجنبية حتى يومنا هذا تعاني من بيئة العمل؛ فيما لا يتطلب تغيير القواعد التنظيمية سوى أيام معدودة. وقد اكتشفت «بايت دانس» المالكة لـ «تيك توك»، هذا بالطريقة الصعبة في سبتمبر، عندما أُجبرت فجأة على تعليق خدماتها للتسوق عبر الإنترنت في إندونيسيا. هناك أيضاً قوانين تحظر الملكية الأجنبية، ما يتطلب في كثير من الأحيان شريكاً محلياً للعمل. علاوة على ذلك، تتعطل المشروعات لأسباب غير مفهومة، ويمكن أن تظل طلبات حاسمة دون توقيع أو موافقة طيلة أشهر.
وتسهم كل هذه المشكلات في استمرار تأخر إندونيسيا عن ركب نظيراتها في جنوب شرق آسيا فيما يتعلق باستغلال إعادة توجيه وتنويع سلاسل التوريد العالمية بعيداً عن الصين، خاصة في مجال تصنيع التقنيات الفائقة.
ومع ذلك، هناك أسباب للتفاؤل، إذ تصب العوامل الجيوسياسية في صالح جاكرتا على نحو متزايد، خاصة المحاولات الأمريكية لتعميق روابطها بالحكومات الآسيوية في مواجهة الصين. وبعد اجتماع ثنائي جمع الرئيس الأمريكي، جو بايدن بنظيره جوكو ويدودو، في واشنطن منذ أيام، أعلنت الولايات المتحدة أنها تنظر في اعتبار إندونيسيا شريكاً في إنشاء سلسلة قيمة عالمية لتصنيع أشباه الموصلات.
ثمة نقطة أخرى مبشرة في قطاع السلع الأساسية، تتمثل في هيمنة المعادن والتعدين على الاستثمارات الأجنبية المباشرة القياسية لإندونيسيا التي قفزت إلى 22 مليار دولار في العام الماضي. كما أصبحت البلاد مركزاً لسلسلة التوريد العالمية للمركبات الكهربائية، بفضل احتياطاتها الوفيرة من معدن النيكل، وهو ركيزة أساسية للصناعة. وتأتي «فورد» و«هيونداي» و«فيل» و«تسينغشان» من بين الشركات التي تعمل على بناء مصانع محلية للبطاريات والمركبات الكهربائية في البلاد.
وفيما تتجه إندونيسيا نحو انتخابات وطنية حاسمة في وقت مبكر من العام المقبل، يظل الفساد والمصالح الخاصة المكتسبة عوامل رادعة أساسية أمام الأعمال والاستثمار. وهذه هي النواحي الأبرز التي تحتاج للمعالجة على نحو أكثر حسماً، إذا كان للاقتصاد الإندونيسي الهائل ليحقق قدراته في تحقيق وثبة هائلة تفوق جيرانه.