يا لها من تكلفة عالية لانتهاء الخصوصية!

ت + ت - الحجم الطبيعي

إليكم بعض التجارب التي لا شك أنها شكلت تنشئتي في وقت ما. أتذكر تلك الحقبة حينما كان العمل على الخزينة أو في مقهى يعني العودة إلى المنزل ورائحة سجائر الآخرين تفوح مني. كما أتذكر حجم الرعب الذي كنت أعيشه عند اضطراري إلى مهاتفة خطيبتي آنذاك على الخط الأرضي وكلي أمل ألا يلتقط والداها السماعة، وما زلت أشعر بذلك التهافت عند ظهور الهواتف المحمولة وما كان يعنيه ذلك لأنه بات بإمكاننا التواصل مع بعضنا بعضاً دون الخوف من التدخل العائلي.

لطالما كنت متفائلاً إزاء التكنولوجيا، لأسباب، أعتقد أنها مرتبطة على نحو وثيق بما سبق. لكن أحد الأشياء التي أخطأت في تقديرها يتعلق بالخصوصية. لقد ظننت أنه عند بلوغي مرحلة منتصف العمر، فسيكون مفهوم الخصوصية، في العالم الثري على الأقل، قد تغير، مثلما تغيرت علاقتنا الجماعية بالإنترنت في سن المراهقة والعشرينات من العمر. وأعني بذلك، أن لا أحد يهتم بما قلناه أو فعلناه، باستثناء التصريح علناً بالعنف.

لقد أومأت برأسي، متفقاً، مع سكوت ماكنيلي، المؤسس المشارك لشركة صن مايكرو سيستمز، عندما قال في العام 1999 إن المستهلكين «لا يتمتعون بأي خصوصية»، وكذلك عندما أعلن مارك زوكربيرغ بعد عقد من الزمان أن «عصر الخصوصية كعرف اجتماعي» قد ولّى وانتهى. وقد بدا الأمر وكأنها أنباء سارة. لقد استندت افتراضاتي حينذاك إلى أنه نظراً إلى وضوح الكثير من هفواتنا للعيان على شبكة الإنترنت، فسوف نضطر، بدافع من الحفاظ على الذات إن لم يكن لسبب آخر، لتبني اللامبالاة الليبرالية في دوائرنا المهنية المباشرة في كثير من الأحيان.

إن الأشخاص يواصلون تعديل وجهات نظرهم عند تواجدهم في وسط صحبة مهذبة، لكنهم يتصرفون على نحو مختلف بين عموم الناس. وفي الأساس، اعتقدت أن الفارق بين «ميتا» و«لينكد إن» سيضع تعريفاً مختلفاً للعالم على نحو أكبر، بمعنى أن المحادثات الشخصية بين أفراد الأسرة والأصدقاء ستظل على «فيسبوك»، فيما ستكون «لينكد إن» للمحادثات المهنية.

لكن تنبؤاتي لم تتحقق. بالطبع، لا تزال شهيتنا الجماعية نحو تقديم الخدمات الأفضل للعملاء على الخصوصية مرتفعة على نحو مدهش. وتختار قلة قليلة منا، أو تطمح، إلى أن تكون خارج المنظومة. مثلاً، الأشخاص الذين يعزفون أكثر مني عن مشاركة سجلاتهم الطبية سيشترون ثلاجة متصلة بالإنترنت بكل سرور، أو حماية منازلهم بواسطة «قفل ذكي». أو كما يقول السير نيك كليغ دائماً في مزاحه، إن «فيسبوك» لا يتمتع بشعبية كبيرة إلا وسط مستخدميه النشطين البالغين ثلاثة مليارات فقط.

إن مشاركة البيانات، سواء للسماح للحكومات بالتجسس على التهديدات المحلية أم اعتقال المجرمين أم لكي لديها فهم أفضل للصحة الوطنية، حقيقة جلية في الحياة العصرية، فهواياتنا وأعمالنا تحتل مساحة كبيرة ومتزايدة على شبكة الإنترنت، وكذلك الأمر بالنسبة لحياتنا الاجتماعية ومشاركاتنا السياسية.

وفي حين انتهى عصر الخصوصية، وفق ما تراه الحكومات والشركات، فإن ذلك لا يعني دخول حقبة اللامبالاة الليبرالية عندما يتعلق الأمر بالأفراد. مثال على ذلك، ما حدث للطلاب الأمريكيين الثلاثة الذين تقدموا للعمل لدى مكتب «ديفيس بولك» للمحاماة، والذين رفض طلبهم بعد كشف مشاركتهم في رسالة حملت «النظام الإسرائيلي المسؤولية كاملة عن العنف الذي تتكشف جوانبه يوماً بعد يوم». بل إن بيل أكمان، من صندوق التحوط «بيرشنغ سكوير»، ومسؤولين تنفيذيين آخرين، دعوا إلى تحديد أسماء كل الموقعين على الرسالة لتفادي توظيفهم «عن غير قصد».

وتعكس عبارة «عن غير قصد» في هذا السياق على ما يبدو، الرغبة في تفادي كابوس توظيف شخص ما بسبب مهاراته وخبراته ذات الصلة بدلاً من وجهات نظره خارج العمل! وأنا أؤيد تماماً الشركات التي تستهدف الحصول على موظفين يتطابقون معها تماماً في نطاق الخدمة، لكنني لن أختار عما قريب محامي الخاص على أساس قواعده الأخلاقية أو مدى إلمامه بالسياسات في الشرق الأوسط.

يمكن إيجاد أمثلة مشابهة على اليسار وعلى اليمين، وكل ذي ذاكرة جيدة سيعرف أن قصصاً كهذه ليست بالجديدة. في حقيقة الأمر، يساورني شعور بالارتياح أنه، كما عندما كنت طالباً، واصل الموقعون على أكثر البيانات اليسارية حدة وتطرفاً اصطفافهم للحصول على تدريب لدى شركات محاماة مرموقة متعددة الجنسية. وصراحة، يعني ذلك، بالنسبة لي، أنه في حين تستحق الحجج الواردة في الرسالة التعاطي معها والنظر فيها، لكن اختيارات المشوار الوظيفي للموقعين عليها ليست كذلك. لكن مثل هذه الوقائع لها تداعيات مخيفة على التعبير، وتجعل تطور تفكير الأشخاص أقل ترجيحاً، وهي مشكلة، بالنظر إلى أن غالبيتنا مخطئين في كثير من الأحيان.

لطالما بنينا صداقات وصلات اجتماعية حول مجموعة من القيم والتصرفات المشتركة. لكن أغلبنا، في بعض الأحيان، سيحتفظ بآرائه لنفسه في التجمعات العائلية. ولطالما قدمنا أنفسنا في محل العمل على نحو مختلف مقارنة بما نفعله في منازلنا. لكن ما فشلت في التنبؤ به هو أن الحياة على الإنترنت ستنطوي على فعل كل هذا طوال الوقت، فالأشخاص الآن يتقدمون للوظائف عبر «فيسبوك» ويجدون الحب على «لينكد إن»، وهو ما يعني تقلص عدد الأماكن التي تشعرنا بالقدرة على الاعتراف بالخطأ أو التحدث بحرية دون خشية العواقب.

كلمات دالة:
  • FT
Email