«إنفيديا» تشق طريقها نحو الهيمنة على الذكاء الاصطناعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

نجح جنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي مقتضب الحديث وذو السترة الجلدية لمجموعة «إنفيديا»، في تسجيل عدد من الانتصارات البارزة، فمجموعة التكنولوجيا التي شارك في تأسيسها ويديرها هي سادس أعلى الشركات العالمية تقييماً في الوقت الحالي، وتُعد رقاقاتها وقوتها البرمجية القوة المشغلة لقاطرة ثورة الذكاء الاصطناعي، ويمكن لإيرادات «إنفيديا» هذا العام المالي تخطّي إيرادات شركات صناعة ألعاب الفيديو الأمريكية كافة مجتمعة.

تبدو هذه النقطة الأخيرة مجرد أمر هامشي لشركة تعمل حواسيبها الخارقة على تدريب تطبيقات مثل «تشات جي بي تي» الخاص بشركة «أوبن إيه آي». وكانت الشركة في بداياتها تعمل في توريد الأجهزة الحاسوبية لألعاب الفيديو، وتصنيع رقاقات الرسوميات للحواسيب الشخصية وأجهزة «إكس بوكس» الخاصة بـ«مايكروسوفت»، ولكنها أحدثت تغييرا لافتا في اتجاهها منذ عقد، بيد أن الألعاب ظلت أكبر مصدر لإيراداتها حتى العام الماضي.

ويُعد التحوّل الذي طرأ على «إنفيديا» واحداً من أكثر التحولات حدة وذكاء في مجال الأعمال، ويشابه التحرك التاريخي الذي خاضته «نينتندو» من أوراق اللعب إلى وحدات التحكم في الألعاب، وأيضاً ابتعاد «تويوتا» عن أنوال النسيج إلى السيارات. وأفصح جنسن، في قمة «ديل بوك» التي نظّمتها صحيفة «نيويورك تايمز» منذ أيام قائلاً: «أحب أن أعيش هذه الحالة التي نكون فيها على وشك الهلاك.. أستمتع بهذا الأمر».

إن ذلك التحوّل لم يكن اعتباطياً كما يبدو، فلألعاب الفيديو والذكاء الاصطناعي قواسم مُشتركة كثيرة، كما أنّ الألعاب تتمتع بتاريخ طويل حلت فيه بمقدمة أكثر تكنولوجيات الحواسيب الشخصية تطوراً. وكان مسؤول تنفيذي لدى «نينتندو» قال لـ«فايننشال تايمز» في ثمانينيات القرن الماضي، في معرض حديثه عن وحدة تحكم «حاسوب العائلة» الذي كانت الشركة أطلقته التو: «كنا أول من أقر بأن حاسوبنا لا يستطيع سوى لعب الألعاب».

وكشفت «نينتندو» بعد ذلك عن لعبة «سوبر ماريو بروس»، كما طرحت جهاز «غيم بوي» المحمول، وكانت الألعاب أكثر أشكال الحوسبة الرسومية روعة، حينما شارك هوانغ في تأسيس «إنفيديا» في سنة 1993، أي قبل عام من إطلاق «سوني» أول «بلاي ستيشن»، كانت سوقاً طبيعية لوحدات المعالجة الرسومية الخاصة بـ«إنفيديا»، بغض النظر عن حقيقة أن هوانغ ذاته كان هاوياً للألعاب.

وهناك نوعان من التحوّلات، الأول طبيعي، والثاني أقرب ما يكون إلى تصاريف الأقدار. لقد بدأت «نتفليكس» بتأجير أقراص «دي في دي»، فكان التطور الطبيعي انتقالها إلى خدمات البث المباشر عبر الإنترنت، أما مؤسسو «نوكيا» فقد شيدوا مصنعاً للورق في سنة 1865، ولم يفكروا قط في أن الشركة ستتحوّل يوماً ما إلى تصنيع معدات الاتصالات، ولذلك، يقع تحوّل «إنفيديا» من وحدات المعالجات الرسومية للألعاب إلى الحواسيب الخارقة للذكاء الاصطناعي، في منطقة وسطى بين هذا وذاك.

وكان من الواضح بعد فترة وجيزة من لإطلاق «إنفيديا» أول وحدات المعالجات الرسومية في سنة 1999، أن استخدامها الحوسبة المتوازية، التي تسرّع المهام بإجراء العديد من العمليات الحسابية الصغيرة في آن واحد، سيكون تطبيقات أوسع نطاقاً، ولكن ماهية هذه التطبيقات لم تكن واضحة، فقد كان تعلم الآلة حينها في مرحلة من الفتور، فيما قامت «إنفيديا» بتكريس جهد أكبر للحوسبة المحمولة، والمحاكاة المرئية واسعة النطاق.

لقد أدرك هوانغ الإمكانات التي يحملها الذكاء الاصطناعي في طياته في سنة 2012، حينما وظفت مجموعة ضمّت إيليا سوتسكيفر، كبير العلماء لدى «أوبن إيه آي»، تكنولوجيا «إنفيديا» لتدريب شبكة عصبية تُدعى «ألكس نت» للتعرف إلى الصور. وبعد أربع سنوات، سلّم هوانغ «أوبن إيه آي» أول حاسوب خارق، وتضم نسخه الأخيرة 35,000 قطعة ويبلغ سعرها 250,000 دولار أو أكثر، ويشكّل أساس نموها الأخير.

ويكمن التشابه بين الألعاب والذكاء الاصطناعي في أن القوة المطلقة هي التي تفوز، ومكّن تعامل وحدات المعالجة الرسومية مع المعلومات بسرعة فائقة، الرسوميات من أن تصبح أكثر تعقيداً باطراد، وهناك حاجة لقدر كبير من القوة الحوسبية الجبارة لتتيح للاعبين التفاعل مع الآخرين في عوالم افتراضية ثرية بالرسوميات وتُعالج فيها الصور وتتولّد على نحو عميق.

هذا ما يُطلق عليه أيضاً «الدرس القاسي» للذكاء الاصطناعي، فقد كان تصميم الشبكات العصبية ذا قيمة عالية، ولكن العامل الحاسم في مدى قدرتها على معالجة المعلومات، وتوليد الصور يكمن في السرعة الحاسوبية، وقد استيقظت الشبكات العصبية من «شتاء الذكاء الاصطناعي» في أوائل الألفية الجديدة، وذلك بمجرد تدريبها بوساطة وحدات معالجة رسومية مُصممة للألعاب.

وكما يلفت بريان كاتانزارو، نائب رئيس بحوث التعلم العميق التطبيقية لدى «إنفيديا»: «تتشارك الرسوميات والذكاء الاصطناعي في خاصية مهمة، فكلما زادت القوة الحاسوبية، كانت النتائج أفضل»، ولأن أحدث تقنيات «إنفيديا» تتخطى قوة وحداتها لمعالجة الرسوميات الأصلية بآلاف المرات، وربما ملايين المرات وفق بعض المقاييس، فقد جعل ذلك الذكاء الاصطناعي سلساً على نحو مقلق.

ولكن ثمة اختلاف مفيد بين الألعاب والذكاء الاصطناعي، من وجهة نظر «إنفيديا»، فحتى أكثر هواة الألعاب هوساً لديهم حداً للسعر الذي سيدفعونه لقاء بطاقة رسومية جديدة، بعكس الشركات التي تحتاج للحواسيب الخارقة للتغلب على «أوبن إيه آي» والتي ستنفق مئات الآلاف من الدولارات، وتتمتع «إنفيديا» بمركز تفاوضي مربح للغاية في هذا الصدد، وحتى إن لم يدُم ذلك حتى الأبد.

وقد تتلاقى التقنيات التي تقف وراء الألعاب والذكاء الاصطناعي من جديد، وإذا كان لزاماً على البشر التفاعل باستمرار مع وكلاء الذكاء الاصطناعي، وهو مُرجح عمّا قريب، فسيتعين علينا إيجاد سبل للتواصل معهم بخلاف كتابة أوامر في صناديق، ويجب لهذا التفاعل أن يتسم بسلاسة أكبر، وأن يكون بإمكانه محاكاة الألعاب والعوالم الافتراضية.

لم تكن الألعاب قط نشاطاً تكنولوجياً تافهاً، ويُعد صعود «إنفيديا» دليلاً على ذلك، وقد بَنَت «آي بي إم» حاسوبها الخارق الذي يحمل اسم «ديب بلو» للتغلب على غاري كاسباروف في الشطرنج في سنة 1997، كما صنعت «إنفيديا» وحدات معالجة الرسوميات للألعاب، وكانت هذه التطبيقات الأكثر تطلباً في عصرها، ولكنها فتحت الطريق أمام أمور أخرى، فلا تقع في الخطأ وتنظر إلى اللعب أنه إضاعة الوقت.

كلمات دالة:
  • FT
Email